وجعل الخالق مخلوقا. فإن هذا لا يتمدح سبحانه بنفيه. ولهذا لا يتمدح به مخلوق عن الخالق.
يوضحه : أن ما تمدح به سبحانه فهو من خصائصه التى لا يشركه فيها أحد وسلب فعله المستحيل الّذي لا يدخل تحت القدرة ولا يتصور وقوعه ليس من خصائصه ولا هو كمال في نفسه ولا يستلزم كمالا ، فإذا مدح نفسه بكونه لا يجمع بين النقيضين كان كل أحد مشاركا له في هذا المدح ؛ بخلاف ما إذا مدح نفسه بكونه لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يموت ولا ينسى ولا تخفى عليه شيء ولا يظلم أحدا ، وهو سبحانه يثنى على نفسه بفعل ما لو ترك كان تركه نقصا ، وبترك ما لو فعله كان فعله نقصا ، وهذا لا حقيقة له عند الجبرية ، والاعتبار عندهم بكون المفعول والمتروك ممكنا فقابلتهم القدرية فجعلوا الظلم الذي تنزه سبحانه عنه مثل الظلم الّذي يكون من العباد ، وشبهوا فعله بفعل عبيده فتسلط عليهم الجبرية بأنواع المناقضات والمعارضات وكان غاية ما عند كل واحد من الفريقين مناقضة الآخر وإفساد قوله ، فكفوا أهل السنة مئونتهم.
* * *
فصل
أما ما احتج به الجبرية من قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فدليل حق استدل به على باطل ، فإن الآية إنما سيقت لبيان توحيده سبحانه وبطلان إلهية ما سواه ، وأن كل من عداه مربوب مأمور منهي مسئول عن فعله ، وهو سبحانه ليس فوقه من يسأله عما يفعله قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ، فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢١ ـ ٢٣) فلم تكن الآية مسوقة لبيان أنه لا يفعل بحكمة ولا لغاية محموة مطلوبة بالفعل ، وأنه يفعل ما يفعله بلا حكمة ولا سبب ولا غاية ، بل الآية دلت على نقيض ذلك ، وأنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وحمده وأن أفعاله صادرة عن تمام الحكمة والرحمة والمصلحة ، فكمال علمه وحكمته وربوبيته ينافى اعتراض المعترضين عليه وسؤال السائلين له. وهم حملوا الآية على أنه لا يسأل عما يفعله لقهره وسلطانه.