يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها ، فالذنوب والأمراض يورث بعضها بعضا. يبقى أن يقال في الكلام ، فالذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ فيقال : هو عقوبة أيضا على عدم ما خلق له وفطر عليه ؛ فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتألهه والإنابة إليه كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم «ما من مولود يولد إلا على الفطرة» (١) وقال : «يقول الله تعالى : «إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (٢).
وقد قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (الروم : ٣٠) فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فلأنه صادف قلبا فارغا خاليا قابلا للخير والشر ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر (٣) كما قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف : ٢٤) ، وقال إبليس لعنه الله (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص : ٨٢ ـ ٨٣) ، وقال تعالى : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (الحجر : ٤٠ ـ ٤١).
__________________
(١) رواه البخاري (١٣٥٨ ـ ١٣٥٩ ، ٤٧٧٥ ، ٦٥٩٩) ، ومسلم (٢٦٥٨).
(٢) رواه مسلم (٢٨٦٥) ، والإمام أحمد (٤ / ١٦٥).
(٣) وقال في «الفوائد» : قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده ، وهذا كما أنهن في الذوات والأعيان ، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات ، فإذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبة ، لم يبق فيه الاعتقاد الحق ومحبته موضع ، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكليم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.
فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والإنس به ، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلي لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره ، ولا حركة للسان بذكره وللجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته ، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق ، والعلوم التى لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه. ـ