وتأمل أحوال محال ذلك ، واستدل بما علمه على ما لم يعلمه وتيقن أن مصدر ما علم وما لم يعلمه لحكمة بالغة لا توزن بعقول المخلوقين ، فقد وفق للصواب.
ولما استشكل المشركون هذا التخصيص قالوا (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) فقال لهم الله مجيبا لهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام : ٥٣) وهذا جواب شاف كاف ؛ وفي ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر من المحل الّذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (الأنعام : ١٢٤).
* * *
فصل
فلنرجع إلى تمام المقصود فنقول : اختلف الناس في العقوبة على الأمور العدمية فمنكرو الحكم والتعليل لا ضابط للعقوبة عندهم إلا محض المشيئة. وأما مثبتوا الحكم والتعليل فالأكثرون منهم يقولون لا يعاقب على عدم المأمور لأنه عدم محض ، وإنما يعاقب على تركه ، والترك أمر وجودي ، وطائفة منهم أبو هاشم وغيره يقولون يعاقب على الأمور الوجودية ، فيكون عقابه بالآلام. وهذا القول الذي ذكرناه قول وسط بين القولين ، وهو أن العقوبة نوعان : فيعاقب على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة المؤلمة ، ثم يعاقب على فعل السيئات بالآلام ، ولا يعاقب عليها حتى تقوم الحجة عليه بالرسالة ، فإذا عصى الرسول استحق العقوبة التامة ، وهو أولا إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره بعد قيام الحجة عليه ، أو التوبة بعد قيام الحجة عليه فإذا لم تقم عليه الحجة كان الصبى الذي يشتغل بما لا ينفعه ، بل بما هو من أسباب ضرره ، ولا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ ، فإذا بلغ عوقب ، ثم يكون ما اعتاده من فعل القبائح قبل البلوغ وإن لم يعاقب عليها سبب لمعصيته بعد البلوغ ، فتكون تلك المعاصى الحادثة منه قبل البلوغ ، فلم يعاقب العقوبة المؤلمة على معصية. وأما العقوبة الأولى فلا يلزم أن