فصل
فإن كثف علمك عن هذا ولم يتسع له عقلك ؛ فاذكر النعم وما عليها من الحقوق ووازن بين شكرها وكفرها (١) ، فحينئذ تعلم أنه لو عذب أهل السماوات
__________________
(١) وقال المصنف في كتاب «الفوائد» : من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له ، فيملها ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها ، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة ، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه ، حتى إذا ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها ، واستحكم ملله لها سلبه الله إياها ، فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه ، اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه ، فإذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ، ورضاه به ، وأوزعه شكره عليه ، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه ، استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها ، مفوض إلى الله ، طالب منه حسن اختياره له.
وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله ، فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها ، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة ، هذا وهى من أعظم نعم الله عليه فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمة وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلما ، فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساع في ردها بجهده ، وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله ، قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).
فليس للنعم أعدى من نفس العبد ، فهو مع عدوه ظهير على نفسه ، فعدوه يطرح النار في نعمه وهو ينفخ فيها ، فهو الّذي مكنه من طرح النار ثم أعانه بالنفخ فإذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق ، وكان غايته معاتبة الأقدار :
وعاجز الرأى مضياع لفرصته |
|
إذا فات أمر عاتب القدرا |
ثم قال : فكرت في هذا الأمر ، فإذا أصله أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده : نعم الطاعات ، ونعم اللذات ، فترغب إليه أن يلهمك ذكرها ويوزعك شكرها.
قال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ).
وقال : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ، وكما أن تلك النعم منه ومن مجرد فضله ، فذكرها وشكرها لا ينال إلا ـ