(هود : ٧) فأخبر أنه خلق العالم العلوى والسفلى ليبلو عباده ، فيظهر من يطيعه ويحبه ويجله ويعظمه ممن يعصيه ويخالفه ، وهذا الابتلاء والامتحان يستلزم أسبابا يحصل بها ؛ فلا بد من خلق أسبابه خلق الشهوات وما يدعو إليها وتزيينها فعل ذلك وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف : ٧) فهذه ثلاث مواضع في القرآن تبين حكمته في خلق أسباب الابتلاء والاختبار ، فظهر أن من بعض الحكم في خلق عدو الله إخراج خبأ النفوس الخبيثة التي شرها وخبيثها كامن فيها فأخرج خبأها بزناد دعوته ، كما يخرج خبأ النار بقدح الزناد ، وكما يخرج خبأ الأرض بإنزال الماء عليها ، وكما يخرج خبأ الأنثى بلقاح الذكر لها ، وكما يخرج خبأ القلوب الذاكية بإنزال وحيه وكلامه عليها.
فكم له سبحانه من حكمة بالغة ، وآية ظاهرة في خلق عدوه إبليس؟ فإن من كمال الحكمة والقدرة إظهار شرف الأشياء الفاضلة بأضدادها ، فلو لا الليل لم يظهر فضل النهار ونوره وقدره ، ولو لا الألم لم يعرف فضل اللذة وشرفها وقدرها ، ولو لا المرض لم يعرف فضل العافية ، ولو لا وجود قبح الصورة لم يظهر فضل الحسن وجمالها. ولهذا كان خلق النار وعذاب أهلها فيها أعظم لنعيم أهل الجنة وأبلغ في معرفة قدرها وخطرها فكان خلق هذا القبيح الشنيع المنظر الذي صورته أشنع من باطنه ؛ وباطنه أقبح من صورته ، مكملا لحسن تلك الروح الزكية الفاضلة ، التى كمل الله تعالى بصورتها جمال الظاهر والباطن ؛ فلو كان الخلق كلهم على حسن يوسف مثلا ، فأى فضيلة وتمييز يكون له؟ ولو كانت الكواكب كلها شموسا وأقمارا فأى مزية كانت تكون للنيرين (١).
* * *
فصل
(كمال العبودية يظهر عند الاختبار)
إن كمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة والدواعى إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية ، وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند
__________________
(١) لنيرين : يعنى الشمس والقمر.