أعدائه متظاهرين عليه ، ساعين في إبطال دعوته الحق ، فما يفعل سبحانه بعذابكم لو لا أنكم أوقعتم أنفسكم فيه بما ارتكبتم.
وهذا المسلك ظاهر المصلحة والحكمة والعدل في حقهم وإن كانوا هم الذين فوتوا على أنفسهم المصلحة ، قال الله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل : ١١٨) ، وهذا الأمر لا بد أن يشهدوه إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ، ويقروا به ولا يبقى عندهم ريب ولا شك ، وتأمل قوله الحق (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة : ٦٧) ، وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر : ١٩) ، كيف عدل فيهم كل العدل بأن نسيهم كما نسوه وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها ، وأسباب لذاتها وفرحها ، عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم ، المتحبب إليهم بآلائه ، فقابلوا ذلك بنسيان ذكره والإعراض عن شكره ، فعدل فيهم بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها ، وليس بعد تعليل مصلحة النفس إلا الوقوع فيما تفسد به وتتألم بفوته غاية الألم.
ونحن فى هذا المسلك في غنية عن أن نقول إن تعذيبهم غير مصلحتهم كما قاله غير واحد من أرباب المقالات ، وكما حكاه عنهم الأشعرى وغيره ، فإن هؤلاء لم يثبتوا وجه المصلحة لهم في تعذيبهم. بل أرسلوا القول بذلك إرسالا ، وكأنهم حاموا حول أمر لم يمكنهم وروده ، وهو أن هؤلاء وإن كانوا به مشركين ولحقه جاحدين ، فإنهم إنما خلقوا على الفطرة السليمة التى هى دين الله ، ولكن عرض لهم ما نقلهم عنها حتى فسدت وبطل حكمها ، وصار الناقل لهم عنها هو الحاكم العامل فيهم. وهذا أمر خارج عن مقتضى الخلقة وأصل الفطرة ، كما أخبر به النبي صلىاللهعليهوسلم في الحديث الّذي رواه مسلم فى «صحيحه» عن عياض ابن حمار المجاشعى عن النبي صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ؛ وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (١).
__________________
(١) تقدم تخريجه.