ويوضحه الوجه السادس : أن القضاء الإلهي خير كله ، فإن مصدره علم الله وحكمته وكماله المقدس ، فهو خير كله ومصلحة وحكمة وعدل ورحمة ، ودخول الشر فيه بالعرض لا بالذات كالشر العارض في الحر والبرد والمطر ، والأكل والشرب والأعمال النافعة ، وأما العرض لا يقصد لذاته فلا يجب دوامه كدوام ما يقصد لذاته من الخيرات والمنافع.
* * *
الوجه السابع : إنك إذا اعتبرت هذه الآلام والشدائد ، والنعمة والرحمة حشوها فظاهرها نقمة وباطنها نعمة فكم نقمة جلبت نعمة ، وكم من بلاء جلب عافية ، وكم من ذل جلب عزا ، وكسر جلب جبرا ، إذا اعتبرت أكثر الخيرات والمسرات واللذات وجدتها إنما ترتبت على الآلام والمشاق ، وأعظم اللذة وأجلها ما كان سببه أعظمه ألما ومشقة. وهذه مشاهد في هذه الدار بالعيان ، لما كانت أعلى الدرجات درجة أهل الجهاد كان أشق شيء على النفوس وأكرهه إليها. قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ : وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٢١٦) ولهذا قيل :
وربما كان مكروه النفوس إلى |
|
محبوبها سببا ما مثله سبب |
فلا يوصل إلى الراحة واللذة إلا على جسر التعب والألم ، وهذا يريك أن المصائب والآلام حشوها نعم ولذات ومسرات ، وهذا لأن الرحمة لها سبق والغلبة فما في طى النقم والعقوبات من الرحمة أسبق من العقوبة وهى الغاية للغضب ، فلا بد أن يغلب أثرها أثر الغضب. كما غلبت الصفة للصفة.
ويوضحه الوجه الثامن : أن الرحمة سبقت إلى هذا المعاقب وظهر أثرها فيه فوجد بها وعاش وسمع وأبصر بها ، وبطش بها ومشى وتحرك بها ، وإلا لو لا أنها سبقت إليه لم يكن له قيام ولا حياة ، بل إنما استظهر على معاصى الرب ومخالفته بالرحمة التي سبقت إليه ووسعته فغلبت أسبابا هلاكه وتلفه فلما تمكنت