أسباب التلف والهلاك واقتضت الرحمة أن جعل لها أسبابا في مقابلتها من موجبها ومقتضاها تزيلها ومحو أثرها ليخلص موجب الرحمة فيظهر أثره ، ودوام العذاب بدوام تلك الأسباب فلو زالت لزال العذاب.
يوضحه الوجه التاسع : إن هذه النفوس فيها ما يقتضي الرحمة من إقرارها بفاطرها وربوبيته. وعلمه وقدرته ، وسمعه وبصره ومحبته ، وتعظيمه وإجلاله وسؤاله وفيها ما يقتضي الغضب والعقوبة كالشرك به وإيثار هواها على طاعته ومرضاته ولما كان مقتضى العقوبة فيها أقوى كان الحكم له ، ومعلوم أن العقوبة إن لم تذهب الأسباب المقتضية لها ولم تزلها بالكلية فإنها تخففها وتضعفها. فإما أن تقاوم أسباب وإما أن تترجح عليها وعلى التقديرين يبطل أثرها. قال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (لقمان : ٢٥) وقال تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (المؤمنون : ٨٤ ، ٨٥) إلى آخر الآيات فهم يعلمون أن الأرض ومن فيها له وأنه رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ، وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، وإذا مسهم الضر في البر والبحر تضرعوا إليه وفزعوا إليه وقالوا : إنما نعبد من دونه هذه الآلهة لتقربنا إليه وتشفع لنا عنده وهو يملكها ونواصيها بيده ، ويحبونه ويقصدون التقرب إليه ، وهذا مما وضعه فيهم برحمته ونعمه ، فعلم فيهم ما يقتضي رحمته ونعمته ولكن لمت غلبت أسباب النقمة كان الحكم للغالب ، ذلك لا يمنع اقتضاء المغلوب أثره وترتبه عليه.
وقد ثبت في «الصحيح» إن الله يقول للملائكة : أخرجوا من النار من في قلبه من الخير ما يزن ذرة أو برة (١) وأنها تخرج منها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان» ، فانظر هذا الجزء اللطيف جدا كيف غلب تلك الأسباب الكثيرة القوية وأبطلها وعاد الحكم له. وثبت في «الصحيحين» «أنه يخرج منها من لم يعمل خيرا قط» (٢) ولكن هذا إخراج منها وهى باقية على حقيقتها وناريتها ، فأخرج منها
__________________
(١) أخرجه البخارى (٤٤) وفي عدة أماكن أخرى في «صحيحه» ، ورواه مسلم فى (الإيمان / ٣٢٥).
(٢) رواه البخارى (٣٤٧٨) ، ومسلم (٢٧٦٦).