مخصوص. فكان ذكر الخاص أبلغ في العموم وقصده من ذكر العام فتأوله فإنه أسلوب عجيب في القرآن.
والمقصود أن سبب الحسنات كلها هو الحى القيوم الذي لم يزل ولا يزال ، وهو الغاية المقصودة من فعلها فتدوم بدوام سببها ، وأما السيئات فسببها وغايتها منقطع هالك فلا يجب دوامها ، فتأمل هذا الوجه فإنه من ألطف الوجوه ، فإن الأسباب تضمحل باضمحلال غاياتها وتبطل ببطلانها. ولهذا كان كل عمل باطلا إلا ما أريد به وجه الله. فإن جزاءه وثوابه يدوم بدوامه ، ما لم يرد به وجه الله وأريد به ما يضمحل ويفنى فإنه يفنى بفنائه ؛ قال الله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (الفرقان : ٢٣) وهذه هي الأعمال التي كانت لغيره ، فكما أن ما لا يكون به لا يكون ، فما كان لغيره لا يدوم ، ولهذا كان لبعض حكم الله تعالى في تخريب هذا العالم أن تشهد من عبد شيئا غيره أنه لا يصلح للعبادة والألوهية ويشهد العابد حال معبوده. والمقصود أن النعم تدوم بدوام سببها وغايتها ، وأن الشرور والآلام تبطل وتضمحل باضمحلال سببها.
فهذه الوجوه وغيرها تبين أن الحكمة والمصلحة في خلق النار تقتضى بقاءها ببقاء السبب والحكمة التي خلقت له ؛ فإذا زال السبب وحصلت الحكمة عاد الأمر إلى الرحمة السابقة الغالبة الواسعة.
يزيده وضوحا الوجه الحادي عشر : أن الرب يستحيل أن يكون إلا رحيما ، فرحمته من لوازم ذاته ، ولهذا كتب على نفسه الرحمة ، ولم يكتب على نفسه الغضب ، فهو لم يزل ولا يزال رحيما ، ولا يجوز أن يقال إنه لم يزل ولا يزال غضبان ، ولا أن غضبه من لوازم ذاته ، ولا أنه كتب على نفسه العقوبة والغضب ولا أن غضبه يغلب رحمته ويسبقها (١).
__________________
(١) تقدم الحديث الذي رواه البخاري وفيه : «إن رحمتى سبقت غضبى».
وعنده أيضا بلفظ : «تغلب غضبي».