يوضحه الوجه الخامس عشر : إن الله تعالى جعل الدنيا مثالا وأنموذجا وعبرة لما أخبر به في الآخرة ، فجعل آلامها ولذاتها وما فيها من النعيم والعذاب وما فيها من الثمار والحرير ، والذهب والفضة والنار تذكرة ومثالا وعبرة ؛ ليستدل العباد بما شاهدوه على ما أخبروا به ، وقد أنزل في هذه الدار رحمته وغضبه ؛ وأجرى عليهم آثار الرحمة والغضب ، ويسر لأهل الرحمة أسباب الرحمة ، ولأهل الغضب أسباب الغضب ، ثم جعل سبحانه الغلبة والعافية لما كان عن رحمته ، وجعل الاضمحلال والزوال لما كان عن غضبه فلا بد من حين قامت الدنيا إلى أن يرثها الله ومن عليها أن تغلب آثار غضبه ولو في العاقبة فلا بد أن يغلب الرخاء الشدة ؛ والعافية البلاء ؛ والخير وأهله والشر وأهله ، وإن أبدلوا أحيانا فإن الغلبة المستقرة الثابتة للحق وأهله ، وآخر أمر المبطلين الظالمين إلى زوال وهلاك ، فما أقام الشر والباطل جيش إلا أقام الله سبحانه للحق جيشا يظفر به ويكون له العلو والغلبة. قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (الصافات :
١٧١ ـ ١٧٣) فكما غلبت الرحمة غلبت جنودنا ، وإذا كان هذا مقتضى حمده وحكمته فى هذه الدار ، فهكذا في دار الحق المحض تكون الغلبة لما خلق بالرحمة والبقاء لها. وسر هذا الوجه وما يتصل به أن الخير هو الغالب للشر ، وهو المهيمن عليه الذي لو دخل جحر ضب لدخل خلفه حتى يخرجه ويغيره ، وإذا كانت للشر دولة وصولة لحكمة مقصودة لغيرها قصد الوسائل ، فالخير مقصود مطلوب لنفسه قصد الغايات.
الوجه السادس عشر : إنه قد ثبت في «الصحيح» إن الجنة يبقى فيها فضل ، فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها بغير عمل كان منهم (١) ، محبة للوجود والإحسان والرحمة ، فإذا كان وجوده ورحمته قد اقتضيا أن يدخل هؤلاء الجنة
__________________
(١) روى البخارى في «صحيحه» (٧٣٨٤) عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يزال يلقى فيها وتقول : هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوى بعضها إلى بعض ثم تقول : قد قد ، بعزتك وكرمك ، ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة» والحديث رواه مسلم في (الجنة / ٣٨).