وهذا بخلاف الجنة ، فإن القرآن والسنة قد دلا على أنها لا تبيد ولا تفنى.
وأما الإجماع فلا إجماع في المسألة وإن كان قد حكاه غير واحد ، وجعلوا القول بفنائها من أقوال أهل البدع ، فقد رأيت بعض ما في هذا الباب عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما من حكى الإجماع فإما أن يكون قد حكاه بموجب علمه كما يحكى الإجماع كثيرا على ما الخلاف فيه مشهور غير خفى وأبلغ من هذه حكاية الإجماع كثير على ما الإجماع القديم على خلافه. وهذا كثير جدا وإنما يعلمه أهل العلم ، ولو تتبعناه لزاد على مائتى موضع. وأما أن يكون من حكى الإجماع أراد أن الأمة اجتمعت على بطلان قول الجهمية بفناء الجنة والنار ؛ وأنهما يشتركان في ذلك ، فنعم اجتمعت الأمة على خلاف هذا القول. فلما قال السلف أن الأمة مجتمعة على خلاف ذلك ظن من تلقى منهم ذلك أن الإجماع على خلافه في الموضعين. وأيضا فإن الأمة مجتمعة على خلاف قولهم في الدارين ؛ فإنهم يقولون إن الله تعالى لا يقدر على إبقائهما أبدا ، إذ يلزم من ذلك وجود حوادث لا نهاية لها قالوا وهذا ممتنع كما أن وجود حوادث لا بداية لها ممتنع ، فيفنيان بأنفسهما من غير أن يفنيهما الله تعالى. وهذا قول لم يقل به أحد من أهل الإسلام سوى هذه الفرقة الضالة : أو يكون حكايتهم الإجماع ، على أن أهل النار لا يخرجوا منها أبدا ، فهو ما أجمع عليه سلف الأمة ، فهذه ثلاث محال للإجماع ، ولكن أين الإجماع على أن النار باقية ببقاء الجنة؟ وأن كليهما في البقاء سواء؟ وأما أدلة العقول فلا مدخل لها في ذلك ، وإن كان لا بد من دخولها فهي في هذا الجانب كما ذكرناه ؛ وأما قياس النار على الجنة فقد تقدم الفرق بينهما من وجوه عديدة وكيف يقاس الغضب على الرحمة ، والعدل على الفضل ، والمقصود لغيره على المقصود لنفسه.
الوجه الثامن عشر : أنه لو لم يكن من الأدلة على عدم أبدية النار إلا استثناؤه سبحانه بمشيئته في موضعين من كتابه ، أحدهما قوله : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ