الوجه الرابع عشر : أنهم قالوا : يعرف المجاز بصحة نفيه ، أى إذا صح نفيه عما أطلق عليه كان مجازا ، كما يقال لمن قال : فلان بحر وأسد وشمس ، وحمار وكلب وميت ليس كذلك. وهذا بخلاف الحقيقة ، فإنه لا يصح أن ينفى عما أطلق عليه لفظا ، فلا يقال للحمار والأسد والبحر والشمس ليس كذلك ، فإنه يكون كذبا ، وقد اعترفوا هم ببطلانه فقالوا : هذا فرق يلزم منه الدور ، وذلك أن صحة النفي وامتناعه يتوقف على معرفة الحقيقة والمجاز ، فلو عرفناهما بصحة النفي وامتناعه لزم الدور.
الوجه الخامس عشر : إن كثيرا من الحقائق يصح إطلاق النفى عليها باعتبار عدم فائدتها ، وليست مجازا كقوله صلىاللهعليهوسلم عن الكهان ليسوا بشيء (١) ، ومن هذا سلب الحياة والسمع والبصر والعقل عن الكفار ومن هذا سلب الإيمان عمن لا أمانة له وسلبه عن الزاني والسارق والشارب الخمر والمنتهب وسلب الصلاة عن الفذ خلف الصف وسلب الصلاة عمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ولم يطمئن في صلاته عند كثير من هؤلاء فإن هذه الحقائق ثابتة عندهم وقد أطلق عليها السلب ، وليس من هذا قوله صلىاللهعليهوسلم : «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان» (٢) ، «ليس الشديد بالصرعة» (٣) ، ونحو ذلك فإن هذا لم ينف فيه صحة إطلاق الاسم ، وإنما نفي اختصاص الاسم بهذا الرسم وحده ، وإن غيره أولى بهذا الاسم منه ، فتأمله فإن بعض الناس نقض به عليهم قولهم : إن المجاز ما صح نفيه ، وهو نقض باطل. وأما النقض الصحيح فما صح نفيه لنقضه وعدم حصول المطلوب منه مع إطلاق الاسم عليه حقيقة والله تعالى أعلم.
__________________
(١) رواه البخارى (٥٧٦٢ ، ٦٢١٣) ، ومسلم (السلام / ١٢٣) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : «سأل ناس رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الكهان فقال : «ليس بشيء» ، فقالوا : يا رسول الله ، إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة».
(٢) أخرجه مسلم (١٠٣٩).
(٣) أخرجه البخاري (٦١١٤) ، ومسلم (٢٦٠٩).