في معنى قوله تعالى
(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ)
ولهذا كاد سبحانه ليوسف حين ظهر لإخوته ما أبطن خلافه ، جزاء لهم على كيدهم له مع أبيه حيث أظهروا له أمرا وأبطنوا خلافه ، فكان هذا من أعدل الكيد ، فإن إخوته فعلوا به ذلك حتى فرقوا بينه وبين أبيه ، وادعوا أن الذئب أكله ، ففرق بينهم وبين أخيهم بإظهار أنه سرق الصواع ولم يكن ظالما لهم بذلك الكيد ، حيث كان مقابلة ومجازاة ، ولم يكن أيضا ظالما لأخيه الذي لم يكده بل كان إحسانا إليه وإكراما له في الباطن وإن كانت طريق ذلك مستهجنة ، لكن لما ظهر بالآخرة براءته ونزاهته مما قذفه به ، وكان ذلك سببا في اتصاله بيوسف واختصاصه به ، لم يكن في ذلك ضرر عليه ، يبقى أن يقال : وقد تضمن هذا الكيد إيذاء أبيه وتعريضه لألم الحزن على حزنه السابق ، فأى مصلحة كانت ليعقوب في ذلك؟
فيقال : هذا من امتحان الله تعالى له ، ويوسف إنما فعل ذلك بالوحي ، والله تعالى لما أراد كرامته كمل له مرتبة المحنة والبلوى ليصبر فينال الدرجة التي لا يصل إليها إلا على حسب الابتلاء ، ولو لم يكن في ذلك إلا تكميل فرحه وسروره باجتماع شمله بحبيبه بعد الفراق. وهذا من كمال إحسان الرب تعالى أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر ، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها. كما أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يكمل لآدم نعيم الجنة أذاقه مرارة خروجه منها ، ومقاساة هذه الدار الممزوج رخاؤها بشدتها ، فما كسر عبده المؤمن إلا ليجبره ولا منعه إلا ليعطيه ، ولا ابتلاه إلا ليعافيه ولا أماته ألا ليحييه ، ولا نغص عليه الدنيا إلا ليرغبه في الآخرة ، ولا ابتلاه بجفاء الناس إلا ليرده إليه.
فعلم أنه لا يجوز ذم هذه الأفعال على الإطلاق ، كما لا تمدح على الإطلاق والمكر والكيد والخداع لا يذم من جهة العلم ولا من جهة القدرة ، فإن العلم والقدرة من صفات الكمال ، وإنما يذم ذلك من جهة سوء القصد وفساد الإرادة وهو أن الماكر المخادع يجوز ويظلم بفعل ما ليس له فعله أو ترك ما يجب عليه فعله.