عندكم قد غلب على الحقيقة بحيث صارت مهجورة أو مغمورة ، ولم يدل على أن الغالب هو الحقيقة والمغلوب هو المجاز ، (وثالثها) : أن هذا لا يمكن ضبطه ، فإن الكثرة والغلبة أمر نسبي يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ويكثر عند هؤلاء ما يقل بل يعدم عند غيرهم ، فما الذي يضبط به الكثرة الدالة على الحقيقة والقلة الدالة على المجاز ؛ ولن تجدوا لذلك ضابطا أصلا.
(جهالة التحكم في استعمال الألفاظ)
الوجه الحادى والثلاثون : إن حكمكم على بعض الألفاظ أنه مستعمل في موضوعه ؛ وعلى بعضها أنه مستعمل في غير موضوعه تحكم بارد ، فإنا إنما نعلم أن هذا المفهوم موضوع اللفظ فيه ؛ فإذا رأيناهم في نظمهم ونثرهم وقديم كلامهم وحديثه قد استعملوا هذا اللفظ وفي هذا المعنى كان دعوى أنه مستعمل في موضوعه في هذا دون الآخر دعوى باطلة متضمنة للتحكم والخرص والكذب.
فإن قلتم : لما رأيناه إذا أطلق فهم منه معنى ، وإذا قيد يفهم منه معنى آخر ؛ علمنا أن موضوعه هو الذي يدل عليه إطلاقه.
قيل لكم : هذا خطأ فإن اللفظ المفرد لا يفيد بإطلاقه وتجرده شيئا البتة ، فلا يكون كلاما ولا جزء كلام ، فضلا عن أن يكون حقيقة أو مجازا ، ومعلوم أن تركيبه التركيب الإسنادي تقييد له ، وإذا ركب فهم المراد منه بتركيبه ، فالذى يسمونه مجازا عند تركيبه لا يفهم منه غير معناه ؛ وذلك موضوعه في لغتهم ؛ فدعوى انتقاله عن موضوعه إلى موضوع آخر وهم إنما استعملوه هكذا ـ دعوى باطلة ، ولنذكر لك مثالا.
ففي «الصحيح» عن أنس رضي الله عنه قال : كان فزع بالمدينة فاستعار النبي صلىاللهعليهوسلم فرسا لأبى طلحة يقال له مندوب ، فركبه فقال ما رأينا من فزع وإن وجدناه