فإنهم أصابهم في تجريد الألفاظ عن قيودها وتركيبها ، ثم الحكم عليها مجردة بحكم ، وعليها عند تقييدها بحكم غيره ما أصاب المنطقيين ومن سلك سبيلهم من الملاحدة في تجريد المعانى وأخذها مطلقة عن كل قيد ، ثم حكموا عليها في تلك الحال بأحكام ، ورأوا وجودها الخارجى مع قيودها يستلزم ضد تلك الأحكام ، فبقوا حائرين بين إنكار الوجود الخارجى وبين إبطال تلك الحقائق التي اعتبروها مجردة مطلقة ، فصاروا تارة يثبتون تلك المجردات في الخارج مجردة مطلقة ويسمونها المثل ، أي المثالات التي تشبه الحقائق الخارجية ، وتارة يثبتونها مقارنة للمشخصات لا تفارقها ، وتارة يجعلونها جزءا من المعينات ، وتارة يرجعون إلى حكم العقل ويقولون إن وجودها ذهني لا وجود لها في الخارج ، ولا يوجد في الخارج إلا مشخص معين مختص بأحكام ولوازم لا تكون المطلوب ، وهؤلاء الذين جردوا الحقائق عن قيودها وأخذوها مطلقة أخرجوا عن مسمياتها وماهياتها جميع القيود الخارجة فلم يجعلوها داخلة في حقيقتها ، فأثبتوا إنسانا لا طويلا ولا قصيرا ، ولا أسود ولا أبيض ، ولا في زمان ولا في مكان ، ولا ساكنا ولا متحركا ، ولا هو في العالم ولا خارجه ولا له لحم ولا عظم ، ولا عصب ولا ظفر ، ولا له شخص ولا ظل ولا يوصف بصفة ولا يتقيد بقيد ، ثم رأوا الإنسان الخارجي بخلاف ذلك كله ، فقالوا هذه عوارض خارجة عن حقيقته ، وجعلوا حقيقة تلك الصورة الخيالية التي جردوها ، فهى المعنى والحقيقة عند هؤلاء الذين اعتبروها مجردة عن سائر القيود ، وجعلهم تلك الأمور التي لا تكون إنسانا في الخارج لأنها خارجة عن حقيقته كجعل هؤلاء القيود التي لا تكون اللفظ مفيدا إلا بها مقتضية لمجازه.
فتأمل هذا التشابه والتناسب بين الفريقين ، هؤلاء في تجريد المعانى وهؤلاء في تجريد الألفاظ ، وتأمل ما دخل على هؤلاء من الفساد في اللفظ والمعنى ، وبسبب هذا الغلط دخل من الفساد في العلوم ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
(أنواع القرائن)
الوجه الأربعون : إن اللفظ لا بد أن يقترن به ما يدل على المراد به.