له وهو أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز فرع لثبوت الوضع المغاير للاستعمال ، فكأن أصحابه أوهموا أن جماعة من العقلاء اجتمعوا ووضعوا ألفاظا لمعان ثم نقلوا هم أو غيرهم تلك الألفاظ أو أكثرها عند من يقول أكثر اللغة مجاز أو بعضها إلى معان أخر فوضعها لتلك المعاني أولا ، ولهذه المعانى ثانيا ، وهذا غير معلوم وجوده ، بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة وإن سمى توقيعا ، فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس فقد قال ما لا علم له به ، وإنما المعلوم الاستعمال ، والقول بالمجاز إنما يصح على القول من يجعل اللغات اصطلاحية ، وأن العقلاء أجمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ، وهذا مما لا يمكن بشرا على وجه الأرض لو عمر عمر نوح أن يثبت أن جماعة من العرب اجتمعوا ووضعوا جميع هذه الأسماء المستعملة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع ثم نقلوها بعد الاستعمال ، وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعانى.
فإن قيل نحن نثبت الوضع بالدليل العقلى ، فإن الاستعمال يستلزم سابقة الوضع ، ووجود الملزوم بدون لازمه محال (قيل) الجواب من وجهين :
(أحدهما) أن دعوى اللزوم دعوى لا دليل عليها ، ولا تكون مقبولة ، فمن أين لكم أن الاستعمال مستلزم سابقة الوضع والاصطلاح : أبا لعقل علم هذا اللزوم أم بالشرع؟ وبالضرورة عرف أم بالنظر؟
(الثاني) : إنا نعلم بالمشاهدة ما يدل على خلاف ذلك ، فإن الله سبحانه يلهم الحيوانات والطير ما يعرف به بعضها مراد بعض ، والإنسان أشد قبولا للإلهام من الحيوانان ، وقد سمى الله ذلك منطقا في قوله عن نبيه سليمان صلىاللهعليهوسلم (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) (النمل : ١٦) وحكى عن النملة قولها (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل : ١٨) وأوحى إلى الجبال والطير أن تسبح مع نبيه داود. وكذلك الآدمى فإن المولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى فيفهم إن اللفظ متى اطلق أريد به ذلك المعنى ، ثم لا يزال يسمع لفظا بعد لفظ ، ويعقل