(فصل الرد على ابن جنى)
الوجه الحادى والخمسون : قال ابن جنى (١) إذا كثر (يعنى المجاز) ألحق بالحقيقة : اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة ، وذلك عامة الأفعال ، نحو قام زيد ، وقعد عمر ، وانطلق بشر ، وجاء الصيف ، وانهزم الشتاء ، ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية ، فقولك قام زيد ، أي هذا الجنس من الفعل ، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام ، وكيف يكون ذلك وهو جنس ، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتى الكائنات من كل من جد منه القيام ، فمعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم. هذا محال عند كل ذي لب ، فإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة ، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتباع والمبالغة ، ونسبة القليل بالكثير ، ويدل على انتظام ذلك بجميع جنسه أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل ، فتقول قومة قومتين وقياما حسنا وقياما قبيحا ، فإعمالك إياه في جميع أجزائه يد على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها ، وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليل ، ألا تراك لا تقول قمت جلوسا ولا ذهبت مجيئا ، ولا يجوز ذلك لما لم يكن فيه دليل عليه ، ألا ترى إلى قوله : لعمري لقد أحببتك الحب كله ، فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اعترافه واستيعابه. وكذلك قول الآخر :
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما |
|
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا |
فقوله كل الظن يدل على صحة ما ذهبنا إليه ، قال أبو علي : قولنا قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد ، (تعريفه هنا) تعريف الجنس ، كقولك :
__________________
(١) ابن جنى : هو أبو الفتح عثمان بن جنى الموصلى النحوي المشهور ، كان إماما في علم العربية والنحو ، له «الخصائص» ، و «سر الصناعة» ، و «التلقين في النحو» وغيرها من الكتب المفيدة في بابها ، توفي ببغداد (٣٩٢ ه) (وفيات الأعيان) بتصرف.