مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) (الطلاق : ٨) ونحوه مجاز تحكم بارد لا معنى له وهو بالضد أولى إذ قد اطرد استعمال القرية إلى الساكن ، وحقيقة الأمر أن اللفظة موضوعة للساكن باعتبار المسكن ؛ ثم قد يقصد هذا دون هذا ، وقد يرادان معا فلا مجاز هاهنا ولا حذف وتخلصت بهذا من ادعاء الحذف فيما شاء الله من المواضع التي زعم أنها تزيد على ثلاثمائة.
الوجه الثاني : إن هذا الحذف الذي يزعمه هؤلاء ليس بحذف في الحقيقة فإن قوة الكلام تعطيه ولو صرح المتكلم بذكره كان عيا وتطويلا مخلا بالفصاحة كقوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (الحشر : ٧) قالوا هذا مجاز تقديره : ما أفاء الله من أموال القرى ، وهذا غلط وليس بمجاز ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير والمعنى مفهوم بدون هذا التقدير. فالقائل اتصل إلى من فلان ألف ، يصح كلامه لفظا ومعنى بدون تقدير. فإن (من) للابتداء في الغاية ، فابتداء الحصول من المجرور بمن ، وكذلك في الآية.
(يوضحه) أن التقدير إنما يتعين حيث لا يصح الكلام بدونه ، فأما إذا استقام الكلام بدون التقدير من غير استكراه ولا إخلال بالفصاحة كل التقدير غير مفيد ولا يحتاج إليه ، وهو على خلاف الأصل فالحذف المتعين تقديره كقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور : ١٠) ، وقوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (الرعد : ٣١) ونحو ذلك.
وأما نحو قوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (الشعراء : ٦٣).
فليس هناك تقدير أصلا إذ الكلام مستغن بنفسه غير محتاج إلى تقدير ؛ فإن الّذي يدعى تقدير قد دل اللفظ عليه باللزوم ، فكأنه مذكور لأن اللفظ يدل بلازمه كما يدل بحروفه ، ولا يقال لما دل عليه دلالة التزام أنه محذوف. فتأمله فإنه منشأ غلط هؤلاء في كثير مما يدعون فيه الحذف.