فصل
في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات
الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ
لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات ، وسمى نفسه بأسماء ، أخبر عن نفسه بأفعال ، وأخبر أنه يحب ويكره ، ويمقت ويرضى ، ويغضب ، ويسخط ، ويجيء ويأتى ، وينزل إلى السماء الدنيا ، وأنه استوى على عرشه ، وأن له علما ، وحياة ، وقدرة ، وإرادة ، وسمعا ، وبصرا ، ووجها ، وأن له يدين ، وأنه فوق عباده ، وأن الملائكة تعرج إليه ، وتنزل بالأمر من عنده ، وأنه قريب ، وأنه مع المحسنين ، ومع الصابرين ، ومع المتقين ، وأن السموات مطويات بيمينه. ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك ، وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك.
فيقال للمتأول : تتأول هذا كله على خلاف ظاهره ، أم تفسر الجميع على ظاهره وحقيقته ، أم تفرق بين بعض ذلك وبعضه؟ فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته كان ذلك عنادا ظاهرا وكفرا صراحا ، وجحدا لربوبيته. وهذا مذهب الدهرية الذين لا يثبتون للعالم صانعا (فإن قلت) أثبت للعالم صانعا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه. وحيث وصف بما يقع على المخلوق تأولته (قيل له) فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه ، هل تدل على معانى ثابتة هي حق في نفسها أو لا تدل؟ فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان ذلك غاية التعطيل. وإن أثبت دلالتها على معنى هي حق في نفسها ثابت ، قيل لك : فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض؟ وما الفرق بين ما أثبتها ونفيتها من جهة السمع أو العقل ، ودلالة النصوص على أن له سمعا وبصرا وعلما وقدرة وإرادة وحياة وكلاما كدلالتها على أن له محبة ورحمة وغضبا ورضا وفرحا وضحكا ووجها ويدين. فدلالة النصوص على ذلك سواء ، فلم نفيت حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه ، وأوّلتها نفس الإرادة؟.