سور المدينة ، وبابه إما من الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر ، والدلالة بالمذكور على المحذوف ، والأصل إن الله قريب من المحسنين ، ورحمته قريبة منهم ، فيكون قد أخبر عن قرب ذاته وقرب ثوابه من المحسنين واكتفى بالخبر عن أحدهما عن الآخر وقريب منه (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة : ٣٤) ومثله على أحد الوجوه (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) الآية (الشعراء : ٤) ، أي فذلوا لها خاضعين (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ) (الشعراء : ٤) لها خاضعة ، وإما لأن القريب يراد به شيئان (أحدها) النسب والقربة فهذا يؤنث ، تقول : هذه قريبة لي وقرابة.
(والثاني) قرب المكان والمنزلة ، وهذا يجرد عن التاء ، تقول جلست فلانة قريبا مني هذا في الظرف ، ثم أجروا الصفة مجراه للأخوة التي بينهما ، حيث لم يرد بكل واحد منهما نسب ولا قرابة ، وإنما أريد قرب المكانة والمنزلة ، وإما لأن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ حذف التاء من صفته وخبره كما ساغ حذفها من الفعل ، نحو طلع الشمس ، وإما لأن قريبا مصدر لا وصف ، كالنقيض والعويل والوجيب ، مجرد عن التاء ، لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء ، كما تقول امرأة عدل ، وصوم ، ونوم.
والذي عندي أن الرحمة لما كانت من صفات الله تعالى ، وصفاته قائمة بذاته ، فإذا كانت قريبة من المحسنين ، فهو قريب سبحانه منهم قطعا ، وقد بينا أنه سبحانه قريب من أهل الإحسان ، ومن أهل سؤاله بإجابته.
ويوضح ذلك أن الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه ، فيقرب ربه منه إليه بإحسانه تقرب تعالى إليه ، فإنه من تقرب منه شبرا يتقرب منه ذراعا ، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا (١) ، فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا
__________________
(١) يشير إلى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة يرفعه بلفظ : «قال الله عزوجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حيث يذكرني ،