أنه لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباينا له ولا حالا فيه ، إذ هو عينه ، والشيء لا ينافي نفسه ولا يحايثها ، فرأوا أن هذا خير من إنكار وجوده وبالحكم عليه بأنه معدوم ، ورأوا أن الفرار من هذا إلى إثبات موجود قائم بنفسه ، لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباين له ولا محايث ، ولا فوقه ولا عن يمينه ، ولا عن يساره ، ولا خلفه ولا أمامه ، فرارا إلى ما لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة ولا تأتي به شريعة ، ولا يمكن أن يقر برب هذا شأنه إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما.
أحدهما : أن يكون ساريا فيه حالا فيه ، فهو في كل مكان بذاته ، وهو قول جميع الجهمية الأقدمين.
الوجه الثاني : أن يكون وجوده في الذهن لا في الخارج ، فيكون وجوده سبحانه وجودا عقليا ، إذ لو كان موجودا في الأعيان لكان إما عين هذا العالم أو غيره ، ولو كان غيره لكان إما بائنا عنه أو حالا فيه ، كلاهما باطل ، فثبت أنه عين هذا العالم ، فله حينئذ كل اسم حسن قبيح ، وكل صفة كمال ونقص ، وكل كلام حق وباطل ، نعوذ بالله من ذلك.
* * *
(مذهب الفلاسفة في ذلك)
المذهب الثاني : مذهب الفلاسفة المتأخرين أتباع أرسطو ، وهم الذين يحكى ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم : إن كلام الله فيض فاض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها ، فأوجب لها ذلك الفيض تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه ، لهذه النفوس عندهم ثلاث قوى : قوة التصور وقوة التخييل وقوة التعبير فتدرك بقوة تصورها من المعانى ما يعجز عنه غيرها ، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس ، فتتصور المعقول صورا نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان ، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج ، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية ، قالوا وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها ، وتشكيل تلك الصور