كذلك وتلاه هو على الأمة كما تلاه عليه جبرائيل ، وبلغه جبرائيل عن الله تعالى كما سمعه ، وهذا قول السلف وأئمة السنة والحديث ، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب ، والقرآن عندهم جميعه كلام الله ، وحروفه ومعانيه ، وأصوات العباد وحركاتهم ، وأداؤهم وتلفظهم ، كل ذلك مخلوق بائن عن الله.
فإن قيل : فإذا كان الأمر كما قررتم فكيف أنكر الإمام أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق وبدعه ونسبه إلى التجهم ، وهل كانت محنة أبي عبد الله البخاري إلا على ذلك حتى هجره أهل الحديث ونسبوه إلى القول بخلق القرآن.
قيل : معاذ الله أن يظن بأئمة الإسلام هذا الظن الفاسد ، فقد صرح البخاري في كتابه «خلق أفعال العباد» وفي آخر «الجامع» بأن القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة ، منهم عمرو بن دينار يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق (١).
فصل : في ذكر ما وقع بين البخاري وأصحابه في هذه المسألة
قال البخاري : وقال أحمد بن الحسين حدثنا أبو نعيم حدثنا سليم القاري قال سمعت سفيان الثوري يقول : قال حماد بن أبي سليمان : أبلغ أبا فلان المشرك أني بريء من دينه ، وكان يقول : القرآن مخلوق ، ثم ساق قصة خالد بن عبد الله القسري وأنه ضحى بالجعد بن درهم وقال إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه (٢).
هذا مذهب الإمام البخاري ومذهب الإمام أحمد وأصحابهما من سائر أهل السنة ، فخفى تفريق البخاري وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث ؛ ولم يفهم بعضهم مراده وتعلقوا بالمنقول عن أحمد نقلا مستفيضا أنه قال : من قال
__________________
(١) رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص ٧) ، وفي «التاريخ» (٢ / ٣٣٨) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص ٣٤٥) ، والدارمي في «الرد على الجهمية» والذهبي في «العلو» وقال الألباني في «المختصر» : إسناده جيد.
(٢) تقدم تخريجه.