ومن المعلوم بالضرورة أنه لا محذور في السفر إلى أرض العدو بمداد وورق وكاغد ، وإن النهى إنما وقع عن السفر بالكلام الذي تضمنه الورق والمداد ، فهو المقصود لذاته ، والورق والمداد مقصود قصد الوسائل ، ولهذا يرغب الناس في الكتاب المشتمل على الكلام الذي ينتفع به ويتنافسون فيه ويبذلون فيه أضعاف ثمن الكاغد (١). والمداد ، لعلمهم أن المقصود هو الكلام نفسه لا المداد والورق.
وكل ذي فطرة سليمة يعلم أن وجود الكلام في المصحف ليس بمنزلة وجود الحقائق الخارجية فيها ، ولا بمنزلة وجودها في محالها وأماكنها وظروفها ، ويجد الفرق بين كون الكلام في الورقة ، وبين كون الماء في الظرف.
فههنا ثلاث معان متميزة لا يشبه كل منها الآخر ، فإن الحقائق الموجودة لها وجود عين ، ثم تعلم بعد ذلك ثم يعبر عن العلم بها ، ثم تكتب العبارة عنها فهذا العلم والعبارة والخط ليس هو أعيان تلك الحقائق بل هو وجودها الذهني العلمي في محله ، وهو القلب والذهن ، ووجودها اللفظي النطقي في محله وهو اللسان في الآدمي ، ووجودها الرسمي الخطي في محله وهو الكتاب أو ما يقوم من حفر في حجر أو خشب ، وقد افتتح الله وحيه إلى رسوله بإنزال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (القلم : ١ ـ ٥) فأخبر سبحانه أنه خلق الحقائق الموجودة ، وعلم الحقائق العلمية ، وذكر تعليمه بالقلم وهو الخط ، وهو مستلزم تعليم البيان النطقي وهو العبارة ، وتعليم العلم بمدلولها وهو الصورة العلمية المطابقة للحقيقة. فأول المراتب الوجود الخارجي ، وبينه وبين الكتابة مرتبتان ، وبينه وبين الوجود العلمي مرتبة اللفظ فقط وليس بينه وبين اللفظ مرتبة أخرى.
إذا عرف هذا فكون الرب تعالى وأسمائه وصفاته في الكتاب غير كون كلامه في الكتاب ، فهذا شيء وهذا شيء ، فكونه في الكتاب هو اسمه
__________________
(١) الكاغد : هو الورق.