فصل
قالت فرقة : القرآن في المصحف بمنزلة وجود الأعيان في السموات والأرض والجنة والنار ، ووجود اسم الرب في ورقة أو صحيفة ، وهذا جهل عظيم ، فإن الفرق بين كون وجود القرآن في الصحف أظهر من أن يحتاج إلى بيان ، ويكفي المراتب الأربعة التي هم معترفون بصحتها ومحتجون بها ، فالقرآن ككلام وجوده في المصحف من باب وجود الكلام في الصحف ، ومعلوم أن وجود الكلام في المصحف هو وجود عيني ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود رسمي ، فإذا وجد الكلام في المصحف كان وجود المرتبة الثالثة في الرابعة ، لا بمعنى أن اللفظ الذي هو حروف وأصوات انتقل بنفسه وصار أشكالا مدادية ، بل ذلك أمر معقول مشهود بالحس يعرفه العقلاء قاطبة.
نعم : وجود القرآن في زبر الأولين من باب وجود المرتبة الأولى في الرابعة فمن سوى بين وجوده ثمّ ووجوده في المصحف فهو جاهل أو ملبس ، وليس القرآن بعينه موجودا في زبر الأولين ، وإنما فيها خبره وذكره والشهادة له فيها مذكور مخبر عنه ، وهو في المصحف ذكر وخبر وشاهد وقصص وأمر ونهي ، فأين أحدهما من الآخر؟ فقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء : ١٩٦) وقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (الأعلى : ١٨) ليس مثل قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٧ ، ٧٨) وقوله : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة : ٢ ، ٣) ومن سوى بينهما لومه أن يقول إن هذا القرآن العربي بعينه أنزل علي من قبلنا أو أن يقول إن المصحف ليس فيه قرآن ، إنما فيه ذكره والخبر عنه كما هو في الصحف الأولى وكلا الأمرين معلوم البطلان عقلا وشرعا.
وقد انفصلوا عن هذا السؤال بأن قالوا المكتوب المحفوظ المتلو هو الحكاية أو العبارة المؤلفة المنطوق بها التي خلقها الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ ، وفي نفس الملك ، فيقال : هذه عندكم ليس كلام الله إلا على المجاز وقد علم بالاضطرار أن هذا الكلام العربي هو القرآن ، وهو كتاب الله وهو كلامه ،