المصنفة من أولها إلى آخرها ، قديمها وحديثها ، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار ، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار في باب الاعتقاد علي وتيرة واحدة ، ونمط واحد ، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها ، قلوبهم في ذلك على قلب واحد ، ونقلهم لا ترى فيه اختلافا ولا تفرقا في شيء ما ، وإن قل ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد ، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢) وقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (آل عمران : ١٠٣).
وأما إذا نظرت إلى أهل البدع رأيتهم متفرقين مختلفين شيعا وأحزابا ، ولا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد ، يبدع بعضهم بعضا ، بل يرتقون إلى التكفير ، يكفر الابن أباه ، والأخ أخاه ، والجار جاره ، وتراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف تنقضي أعمارهم ولم تتفق كلماتهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر : ١٤) أو ما سمعت بأن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللون يكفر البغداديون منهم البصريين ، والبصريون البغداديين ، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي وابنه أبا هاشم وأصحابه ، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أبا علي وأصحابه ، وكذلك سائر رءوسهم وأصحاب المقالات منهم إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ، وكذلك الخوارج والرافضة فيما بينهم ، وسائر المبتدعة كذلك ، وهل على الباطل أظهر من هذا؟ قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) (الأنعام : ١٥٩) فبرأ الله رسوله من أهل هذا التفرق والاختلاف.
(قال) وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل ، فأورثهم الاتفاق والائتلاف ، وأهل البدع أخذوا الدين