عبيدة ، وشرح فيه وبسط على صغر حجمه ولطفه. ثم جمع عبد الملك بن قريب الأصمعىّ ـ وكان في عصر أبى عبيدة وتأخر عنه ـ كتابا أحسن فيه الصّنع وأجاد ، ونيّف على كتابه وزاد ، وكذلك محمّد ابن المستنير المعروف بقطرب ، وغيره من أئمة اللغة والفقه جمعوا أحاديث تكلموا على لغتها ومعناها في أوراق ذوات عدد ، ولم يكد أحدهم ينفرد عن غيره بكبير حديث لم يذكره الآخر. واستمرّت الحال إلى زمن أبى عبيد القاسم بن سلّام وذلك بعد المائتين ، فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار الذى صار ـ وإن كان أخيرا ـ أوّلا ، لما حواه من الأحاديث والآثار الكثيرة ، والمعانى اللطيفة ، والفوائد الجمّة ، فصار هو القدوة في هذا الشأن فإنه أفنى فيه عمره وأطاب به ذكره ، حتى لقد قال فيما يروى عنه : «إنى جمعت كتابى هذا في أربعين سنة ، وهو كان خلاصة عمرى». ولقد صدق رحمهالله فإنه احتاج إلى تتبّع أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم على كثرتها وآثار الصحابة والتابعين على تفرّقها وتعدّدها ، حتى جمع منها ما احتاج إلى بيانه بطرق أسانيدها وحفظ رواتها. وهذا فن عزيز شريف لا يوفّق له إلا السعداء. وظنّ رحمهالله ـ على كثرة تعبه وطول نصبه ـ أنه قد أتى على معظم غريب الحديث وأكثر الآثار ، وما علم أنّ الشّوط بطين (١) والمنهل معين ، وبقى على ذلك كتابه في أيدى الناس يرجعون إليه ، ويعتمدون في غريب الحديث عليه ، إلى عصر أبى محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينورى رحمهالله ، فصنف كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار ، حذا فيه حذو أبى عبيد ولم يودعه شيئا من الأحاديث المودعة في كتاب أبى عبيد إلا ما دعت إليه حاجة من زيادة شرح وبيان أو استدراك أو اعتراض ، فجاء كتابه مثل كتاب أبى عبيد أو أكبر منه. وقال في مقدّمة كتابه : «وقد كنت زمانا أرى أن كتاب أبى عبيد قد جمع تفسير غريب الحديث ، وأن الناظر فيه مستغن به. ثم تعقبت ذلك بالنظر والتفتيش والمذاكرة فوجدت ما ترك نحوا مما ذكر ، فتتبّعت ما أغفل وفسرته على نحو ما فسّر ، وأرجو أن لا يكون بقى بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال». وقد كان في زمانه الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربىّ رحمهالله ، وجمع كتابه المشهور في غريب الحديث ، وهو كتاب كبير ذو مجلدات عدّة ، جمع فيه وبسط القول وشرح ، واستقصى الأحاديث بطرق أسانيدها ، وأطاله بذكر متونها وألفاظها ، وإن لم يكن فيها إلا كلمة واحدة غريبة ، فطال لذلك كتابه وبسبب طوله ترك وهجر ، وإن كان كثير الفوائد جمّ المنافع ؛ فإنّ الرّجل كان إماما حافظا متقنا عارفا بالفقه والحديث واللغة والأدب ، رحمة الله عليه.
__________________
(١) أى بعيد.