الواقعية ولا يرى ربّه الذي ربطها به ، وربطها يعني فقرها الذاتي إليه تعالى ، فعدم وجدانه لربه سببه عدم وجدانه لنفسه (المطمئنة لا الأمارة) وجدانا حضوريا حقيقيا ، وسبب عدم الوجدان للنفس الملهمة هو الانغماس في عالم الطبيعة والمادة مما يسبّب لهم نسيان إنسانيتهم الأصيلة (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) (آل عمران / ١١٥) (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) (الحجر / ٤) فتثاقلوا إلى الأرض فأصبحوا قردة خاسئين (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (التوبة / ٣٨) (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (البقرة / ٦٦).
والمسخ عبارة عن التجسد للملكات النفسانية على صور الحيوانات بحسب ما تنطبع عليه النفس من الصفات والملكات ، لذا قال مولى الثقلين : [الصورة صورة إنسان ، والقلب قلب حيوان وذلك ميّت الأحياء] (١).
فالمسخ في الماهية (لا في المادة) المعبّر عنه بالمسخ الملكوتي لا الملكي لأن الثاني عبارة عن مفارقة الروح من البدن الأول إلى بدن آخر تحل فيه ويعبّر عنه بالتقمص أو التناسخ وهو باطل جملة وتفصيلا. أما الأول فهو عبارة عن ظهور باطن الشخص ، وتجسّد الظاهر بما انطبع في الباطن ، أو بعبارة هو انعكاس الظاهر لما في الباطن ، لأنّ الإنسان الممسوخ الصورة والصفة قد قطع الربط الكمالي بينه وبين المبدأ وتوجه إلى القبلة التي ارتضاها لنفسه غير قبلة الروحانيين والملائكة المقدّسين ، فهبط ونزل من ذروة الإنسانية إلى حضيض البهيمية ، لأنّ واقعية كل إنسان تحددها روحه ، وبما أن نفوس بعض البشر هي روح حيوانية ، فهم حيوانات في الحقيقة إلّا أنهم بشر في الظاهر «الصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان وذلك ميّت الأحياء» ، لأنه فقد الحياة الإنسانية ، فهو ميت ، وصورته الظاهرية لا تبيّن حقيقته ، فحقيقته شيء آخر تكشف لأصحاب البصيرة واليقين.
فيتضح مما ذكرنا : أنّ المسخ تارة في الماهية وأخرى في المادة ، فالأول عليه أكثر الناس لجمودهم على الشهوات والحطام ، والثاني مخصوص ببعض الناس جرى عليهم تغيير الصورة الظاهرية إلى صورة أخرى مع بقاء الروح.
__________________
(١) نهج البلاغة للفيض : الخطبة ٨٦.