وإن كانت الثانية : فلا بأس بها إذ إن رؤيته تعالى بالكشف الشهودي والعلم الضروري بوجوده تعالى مما لا نزاع فيه بين أحد من المسلمين فهو القدر المتيقن من الرؤية ، ولأن العلم بذات الباري وصفاته وأسمائه يوم القيامة يصير ضروريا لدى كل الناس حتى عند غير العارفين به تعالى ؛ نعم العلم به عزوجل بالشهود القلبي في الدنيا متفاوت بحسب القابليات سعة وضيقا ؛ وهذا النوع من الإدراك الشهودي خارج عن محط البحث ومحل النزاع ، فيتعيّن أن يكون مراد الأشاعرة من الرؤية هي الحقيقية أي الرؤية الحسّية.
البرهان الثاني :
إنّ الإبصار أو الرؤية لا يمكن تحقّقها إلّا إذا كان المبصر مقابلا للرائي من دون واسطة أو ما في حكم المقابل له بواسطة كالمرآة ، وهذا لا يناسب الرب الجليل لأنه ينتج أن يكونعزوجل مقابلا أو ما في حكمها مما يعني محدودية الخالق وكونه في جهة يشار إليه بأنه هنا أو هناك وهذا مستحيل في حقه تعالى لاستلزامه المحدودية والجهتية المنزّه عنهما الباري العظيم ، لأنّ المحدودية والجهتية من لوازم الجسمية المتقدّرة بالأبعاد الزمانية والمكانية ، والله سبحانه وتعالى خالق الزمان والمكان والمادة ، لذا لا تناله يد البصر والوهم ، بل العقل عاجز عن إدراك حقيقته وكنهه إذ لا ماهية ولا جنس ولا فصل له حتى يتعقّلها الإنسان ويعرفه بها ، بل العقل متكفّل أن يعرفه تعالى بالصفات والأسماء مع سلب النعوت التي لا تليق بذاته المقدّسة.
البرهان الثالث :
إنّ الرؤية المدّعاة سواء كانت عبارة عن انطباع الصور في العين أو انعكاس أشعة من أجهزة العين إلى الشيء المرئي ، فهو على كلا الأمرين تستلزم أن يكون سبحانه جسما ذا أبعاد من الطول والعرض والعمق ، ومحلّا لعوارض وأحكام جسمانيّة مما يستدعي محدوديته واحتياجه للغير وكل ذلك منزّه عنه تعالى.
إضافة : إلى أن الرؤية البصرية لو وقعت على الذات الإلهية «تعالى الباري عن ذلك علوّا كبيرا» أو على بعضها استلزم التناهي وهو خلف كونه تعالى مطلقا ، لأنه إن وقعت على كل ذلك الذات استدعى كونه تعالى مركّبا محدودا ومتناهيا محصورا ، وإن وقعت على بعض الذات استدعي التبعيض التركيبي ، وكلاهما باطلان كما قلنا لاستلزامهما المحدودية التي هي من لوازم المادة.