وجلّ في أنه هل بإمكان العقل التوصل ـ من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة ـ إلى ضوابط للأفعال ، يحكم على أساسها بلزوم القيام بهذا الفعل وترك الفعل الآخر ، فهل يمكن مثلا أن يحكم العقل بأنّ الظلم قبيح والمعروف جميل أم أن أمثال هذه الأحكام من مختصات الوحي فقط؟
فيه رأيان :
الأول : للإمامية وتبعهم المعتزلة ، قالوا إنّ العقل قادر على إدراك الحسن والقبح من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، نعم هما يرشدان إلى الحكم العقل.
الثاني : للأشاعرة ، قالوا إنّ العقل لا يدرك الحسن والقبح وإنما الحسن ما حسّنه الشارع المقدّس ، والقبح ما قبّحه كذلك ، وهذا ما يسمى بمسألة الحسن والقبح العقليين ، لذا ذهب شيخهم الأكبر أبو الحسن الأشعري إلى الاعتقاد إلى أن تحكيم العقل في باب التحسين والتقبيح يستلزم نفي حرية المشيئة الإلهية وتقييدها بشرط وقيد ، إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل ، كما عليه عزوجل الاجتناب عمّا هو القبيح عنده ، فلأجل التحفظ على إطلاق المشيئة الإلهية لا حسن إلّا ما حسّنه الشارع لمقدس ، كما لا قبيح إلّا ما قبّحه ، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة ويعدّ ذلك منه حسنا.
وقال في موضع آخر :
ولا يقبح منه (أي من الله) أن يعذّب المؤمنين ، ويدخل الكافرين الجنان ، وإنما نقول إنه لا يفعل ذلك لأنه أخبرنا أنه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره(١).
فنفي الأشعري لمسألة التعديل والتجوير (نسبة للعدل والجور) العقليين ، وأخذه بالشرعيين فقط مما يثير الدهشة والحيرة مع أن المسألة مما تبانى عليها العقلاء من كل دين ، فلا تجد إنسانا على وجه البسيطة لا ينكر قبح الظلم والإساءة إلى البريء أو المؤمن المسالم.
الأسباب المستدعية للإنكار :
لعلّ الأسباب التي استدعت أو دفعت بالأشعري إلى هذه العقيدة شيئان :
__________________
(١) اللمع : ص ١١٦.