وجه الدلالة : أن الكافرين قد أمروا أن يسمعوا الحق وكلّفوا به مع أنهم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ...) فدلّ ذلك على جواز التكليف بما لا يطاق ، ودلّ على أنّ من لم يقبل الحق ولم يسمعه لم يكن مستطيعا.
والجواب :
إنّ الآية بصدد عدم استطاعتهم على السمع لتماديهم في الظلم والغي وإحاطة ظلمة الذنوب على قلوبهم وأعينهم وأسماعهم ، حيث صيّر العصيان والطغيان القلوب ميتة والأسماع صمّاء ، قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ).
الآية الثانية : قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٢) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٣)) (البقرة / ٣٢ ـ ٣٣).
قالوا : انه سبحانه كلّف الملائكة بإنباء الأسماء فقالوا له (لا عِلْمَ لَنا) فأمرهم بالإنباء مع كونهم ليسوا بعالمين دليل التكليف بما لا يطاق.
يلاحظ عليه :
إنّ الأمر في قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) للتعجيز لا للتكليف والبعث نحو الإنباء حقيقة ، هذا نظير قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
إلى هنا تبيّن أن التكليف بغير المقدور مما تأباه العقول وتنكره أدلّة المنقول ، وما استدلّ به العامة فمبنيّ على المرتكزات التي يسيرون على ضوئها منها عدم تأثير قدرة العبد في فعله وليس العبد إلّا ظرفا للفعل كما تقدم.
الأمر الثالث : الجاهل المقصّر معاقب :
مرة يكون الجاهل قاصرا بمعنى أنه لم يتمكن من السؤال لمانع أو لقصور في ذاته ، فهذا معذور عند الله تعالى ولا عقاب عليه إذ إنه تعالى لا يعاقب إلا بعد البيان ووصول البرهان وحيث لا بيان واصل للمكلّف فلا عقاب. وبعبارة أخرى : انّ الجهل من الأعذار العقلية والشرعية ، فالجاهل بالحكم قصورا لا تقصيرا معذور ، أما المقصّر فهو كالعامد في عدم العذر واستحقاق العقاب ، فلا عقاب على من لم يتنجز عليه التكليف لأن المؤاخذة فرع وصول التكليف وتنجزه بحق