بيان ذلك :
أن الله سبحانه لما خلق الإنسان خلق فيه مجموعة من الشهوات تنازع العقل ، فإذا كان كذلك لا بدّ من ضبط ميوله ولا يمكن ضبطها إلّا بتكليف حيث ينهاه عن الظلم والرذيلة ، ولا يمكن الاعتماد على العقل لمزاحمة الشهوة له لذا قيل «السمعيات ألطاف في العقليات» فمن أجل أن لا يرتكب الإنسان الخطايا والقبائح لا بدّ له من وجود تكليف يردعه عن القبائح والمفاسد.
اللهم إلّا أن يقال : أنه سبحانه يمكن أن يخلق ولا يكلّف ثم يدخل الجنة.
يقال في الجواب : أنه على هذا فما الفائدة من خلقهم في الدنيا ، بل كان المتعين أن يخلقهم في الجنة منعمين دون أن يكونوا في دار الناسوت.
الثاني : قد تبين أن الغرض من الخلق هو المعرفة أو العبادة ، ولا يحصل الغرض إلّا باللطف وإلّا لزم نقض الغرض.
بيان ذلك :
أن المكلّف (بالكسر) إذا علم أنّ المكلّف (بالفتح) لا يطيع إلّا باللطف ، فلو كلّفه من دونه كان ناقضا لغرضه كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه إلّا أن يستعمل معه نوعا من التأدب ، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه ، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض (١).
فتحصّل مما ذكر : أن العقل من باب اللطف يحكم بوجوب التكليف وليس معنى الوجوب ـ كما توهم جماعة ـ أن العقل يحكم عليه تعالى أن يلزمنا بتكاليف فيستدعي ذلك حاكمية العقل عليه تعالى ، وإنما المراد من الوجوب العقلي أن صدور ذلك الفعل منه تعالى واجب نظرا إلى حكمته المطابقة للطفه بالعباد.
وللّطف معنيان :
الأول : هو كل ما يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية يسمى لطفا.
الثاني : أن مقتضى كمال الذات الإلهية تستوجب لزوم إفاضة اللطف منه للعباد ، فلطفه رحمته المطلقة.
ومن اللطف التكليف ، إذ عدم التكليف إما من جهة الجهل أو من جهة
__________________
(١) كشف المراد : ص ٣٥١ بتصرّف.