والبداء التشريعي تماما كالبداء التكويني ، غاية الأمر أن الثاني إبداء منه تعالى لغيره في عوالم التكوين ، كذلك الثاني إبداء تشريعي منه تعالى لغيره لمصلحة اقتضت أن يلغي الحكم الأول ويثبت حكما آخر محله تخفيفا وتسهيلا على المكلفين ، وهذا المعنى من البداء التشريعي يعبّر عنه بالنسخ التشريعي ولا بأس أن نذكر شيئا من حقيقة النسخ التشريعي.
فأقول :
«النسخ» لغة : بمعنى الإزالة ومنه الحديث المشهور :
«شهر رمضان نسخ كلّ صوم» أي أزاله ، ويقال نسخت الشمس الظلّ أي أزالته ، ونسخت الكتاب أن نقلته ، ونسخ الآية بالآية : إزالة حكمها بها ، فالأولى منسوخة ، والثانية : ناسخة.
«النسخ» اصطلاحا : رفع التشريع السابق ـ كان يقتضي الدوام حسب ظاهره ـ بتشريع لاحق حيث لا يمكن اجتماعهما معا ، إما ذاتا إذا كان التنافي بينهما بيّنا واضحا وإما بدليل خاص من إجماع أو نص صريح ، أو بعبارة : أن النسخ هو رفع الحكم الثابت السابق الظاهر في الدوام بتشريع لاحق بحيث لولاه لكان ثابتا ويظن أبديته مطلقا سواء كان الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة واحدة أم في شرائع عدة كما أن كل شريعة لا حقة تنسخ الشريعة السابقة عليها.
فرفع التشريع السابق الذي كان بحسب منظور المكلّفين يقتضي الدوام والاستمرار بتشريع حكم لاحق كان معلوما عنده سبحانه من أول الأمر ، فمثلا حينما رفع تشريع الاتجاه من بيت المقدس إلى اتجاه الكعبة المشرّفة ، هذا التحويل كان معلوما منذ الأزل عند الله سبحانه ، وإنما شرّع الصلاة إلى بيت المقدس لفترة زمنية معيّنة امتحانا للعباد واختبارا لهم حسب ما تقتضيه المصلحة ، وهذا تماما كما لو رأى الطبيب أن من مصلحة المريض الامتناع عن شرب الدخان لمدة أسبوع واحد ، وأيضا رأى أن من المصلحة أن لا يعلم المريض بتحديد الوقت ، فنهاه عن شرب الدخان على هذا الأساس من غير قيد ، وبعد مضي أسبوع أذن له في شرب الدخان ، فالمصلحة حينئذ تقتضي أن يرفع المنع من شرب الدخان. وعلى هذا الأساس ينحصر معنى النسخ في إمحاء ما ظهر من إرادة الدوام ، لا إمحاء الإرادة الواقعية مما يستلزم البداء المستحيل عليه تعالى ، لأنّ النسخ بمعناه الباطل أي «الإزالة» الناتجة عن حالة التبدّل في الرأي ونشوء