فالنمل مثلا بخططه الهندسية الرائعة في كيفية سيره بانتظام وقانون محكم تجعل الفرد مدهوشا ، وكذا ما نعلمه عن النحل حيث تحكمهم علاقات وقوانين خلّاقة يسيرون على وفقها بما هداهم الله تعالى من الفهم والإدراك كلّ بحسبه.
وقس عليه الأحكام المنظّمة الدائرة بين الطيور حيث تبهر العقول والألباب.
الأمر الثاني : هل الحكم منحصر به تعالى.
قد قلنا ان الحكم هو التقنين والتشريع الصادر منه تعالى إلى العباد وهذا بالنظر الأولي وبالأصالة منحصر به تعالى إذ لا يحق لأي كان أن يشرّع للبشرية قوانين تسير على وفقها إذ لا نجد بين كل الأقوام التي سنّت لمجتمعاتها قوانين اتفقت فيما بينها على حكم أو قانون واحد ، بل إنك تجد التفاوت والتهافت في قانون كل بلد يختلف عن قوانين البلد الآخر ، مما يجعل من القانون أو الحكم مجرّد أداة للحكّام يلعبون به كما يشاءون بل الحكم أو القانون الذي يحفظ أفراده هو القانون النازل من عند علّام الغيوب فتكون البشرية كلها على نسق واحد في أحكامها وقوانينها مما يجعل من الأفراد في كل عصر ومصر أمة واحدة يعبدونه لا يشركون به شيئا.
والتدبّر في كلامه تعالى يدفع بنا أن نعتقد أن القرآن يرى أن الحكم مختص به تعالى وليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم ووضعه في المجتمع الإنساني قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (يوسف / ٤١) ، والحكم لا بدّ أن يكون جاريا على مقتضى الخلقة والفطرة قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم / ٣١).
وذلك لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (المؤمنون / ١١٦) بل خلقهم لأغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها بحسب فطرتهم ، ويسيرون إليها بحسب ما جهّزهم به من الأسباب والأدوات وهداهم إليه من السبيل الميسّر لهم قال تعالى : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (عبس / ٢١).
فالذي يتعيّن للإنسان من الأحكام والسنن هو الذي يدعوه إليه الكون العالمي الذي هو جزء حقير منه ، وقد جهّز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال ، فهذا الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض ، هو مركب إرادة الله تعالى والحامل للشريعة الفطرية الإنسانية.
فالدين الحق هو حكم الله تعالى وما وراءه من حكم يعدّ باطلا لا يسوق