إن الوحي عند الأنبياء يرجع في واقعه إلى تجلّي وتكشّف الشخصية الباطنة للإنسان الموحى إليه بحيث تظهر آثارها إذا تعطّلت القوى الظاهرية وتخدّرت فعاليتها كما يحصل للنائمين ، فما دامت الروح الإنسانية منشغلة بالبدن ولوازمه فهي منصرفة عمّا وراءه ، فكلما قلّ الانشغال كلّما كثر الاطلاع على عالم الغيب.
يرد على هذه النظرية :
١ ـ ليس كل من تعطّلت قواه الظاهرية بقادر عن تلقّي الوحي الإلهي وإلّا لأصبح عدد الأنبياء هائلا ، مع أننا نسمع الكثير عن المرتاضين الذين انسلخوا عن قواهم الظاهرية بشكل تامّ لكنهم لم يدّعوا أنهم أنبياء يوحى إليهم ، ولا أحد ادّعى أنهم أنبياء.
٢ ـ إنّ المعلومات القيّمة والمعارف الخلقية السامية والقوانين الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء ليست نتاج التكشّف الذاتي لدى الأفراد المنسلخين عن المادة ، وكيف يكون ذلك في حين أن المصدر الوحيد للمعارف الموجودة عند هؤلاء المرتاضين هو الشخصية الظاهرية أو الإيحاءات الجنيّة أو الشيطانية وهي لا تعدو كونها معارف ظاهرية في حين أن ما يأخذه الأنبياء من معارف عبر الوحي يختلف تماما عمّا يأخذه المرتاضون ، والقرآن الكريم أكبر شاهد على أن ما جاء به الأنبياء ليس نابعا من ذواتهم المتكشّفة ، وان ما نزل على قلب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ما هو إلّا وحي السماء فاض على روحه المباركة.
٣ ـ إنّ أقصى ما تفيده نظرية التكشّف الذاتي هو ظهور بعض المعلومات عند تعطّل القوى الظاهرية كما عند المرتاضين المنعزلين عن صخب المدينة وضوضائها ، فلا يحصل التجلّي عندهم إلّا ضمن شروط معينة وحالة خاصة ولا يحصل في غيرها من الحالات ، في حين أن الأنبياء تظهر لديهم المعلومات من دون الخضوع إلى شروط معينة كما هو معتاد عند المرتاضين ، فظهور المعلومات عند الأنبياء عن طريق الوحي تكون في أقصى حالات تنبههم واشتغالهم بالأمور الاجتماعية والسياسية وغيرها حتى في حال الحرب فإنّ جبرائيل ينزل على النبي ليبلغه أوامر الله تعالى الملقاة عليه للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فهاتان النظريتان ـ أي نظرية التخيل والتكشف الذاتي ـ من أهم النظريات التي يتشدق بهما الجاهليون القدامى والجدد في مقابل ما هو الحق الصريح في أن ظاهرة تلقي الوحي تعتمد على اتصال النفوس الصافية القوية بعالم المجرّدات