وسيأتي مزيد تحقيق بشأن هذا الوجه في الجهة الخامسة.
الجهة الخامسة : في العلة المحدثة للمعجزة :
مما لا ريب فيه أنّ كل ممكن وراءه علة توجده ولا يمكن أن يوجد نفسه ، إذ فاقد الشيء لا يعطيه ، والمعجزة ليست بدعا من الأشياء فلا بدّ أن يكون وراءها من يوجدها ، وفي المسألة أربعة أقوال :
القول الأول : أنها الله سبحانه وتعالى :
أي أنه تعالى يقوم بإيجاد المعاجز والكرامات مباشرة ومن دون توسط علل وأسباب ، فعصا موسى عليهالسلام تحوّلت إلى أفعى مباشرة ومن دون أن تخرج من البيضة ، وتفجّرت المياه من الصخور الصمّاء مباشرة من دون ينابيع وعيون قال تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) (البقرة / ٦١).
وهكذا بقية المعاجز التي قام بها الأنبياء تحققت خارجا من دون سبب طبيعي.
قال الأستاذ العلّامة جعفر السبحاني :
«هذا الوجه وإن كان أمرا ممكنا لعموم قدرته تعالى على كل شيء إلّا أنه خلاف ما عرفناه من الرب تعالى في سننه التي أجراها في الكون وهي أن يكون لكل شيء سبب وعلّة ، ومن البعيد أن يخالف تعالى سننه في مجال المعاجز (١).
لكن يرد عليه :
إنّ حصر وجود الأشياء بعللها المادية المتعارفة وغير المتعارفة وإن كان عاما شاملا لكل شيء إلّا أنه يخرج منه قسم خاص غير مرتبط بنظام السببيّة ، منه على سبيل المثال : المعاجز والكرامات ، ويؤيده من أنه سبحانه عند ما خلق المادة الأولى لهذا الكون ، لم يكن خلقه لها عبر سبب أو علة بل أوجدها من طي العدم بمجرد إرادته ذلك ، ثم منها خلق الأشياء ، فالفصل بين المادتين ـ أي الأولى التي خلقها من دون توسط سبب والثانية بتوسط المادة الأولى ـ يعدّ ترجيحا بلا مرجّح بمعنى أن نقول بجواز أن يخلق المادة الأولى من دون سبب دون المادة الثانية يكون هذا مجرّد فصل من دون دليل معتد به.
مضافا إلى أنه إذا كان أمرا ممكنا ثبوتا لعموم القدرة يكون ممكنا أيضا إثباتا
__________________
(١) الإلهيات : ج ٢ ص ٧٠.