الإعجاز والحجة على دعوى الرسالة على أتمّ الوجوه في المعجز وأعمّها ، فأين أنت عن عرفانه العظيم الذي هو لباب المعقول وصفوة الحكمة ، وأين أنت عن أخلاقه التي هي روح الحياة الأدبية والاجتماعية ، وأين أنت عن قوانينه الفاضلة وشرائعه العادلة ومحلها من العدل والمدنية ، وأين أنت عن أنبائه بالغيب التي ظهر مصداقها في المستقبل وهلمّ النظر إلى أقصر سور القرآن وما عرفناه من عجائبها الباهرة. انظر إلى سورة «التوحيد» وأنوار عرفانها الحقيقي في ذلك العصر المظلم ، وانظر إلى سورة «تبّت» وأنبائها بهلكة أبي لهب وامرأته بدخول النار وظهور مصداق ذلك بموتهما على الكفر ، وحرمانهما من سعادة الإسلام الذي يجبّ ما قبله ، وانظر إلى سورة «النصر» وأنبائها بغيب النصر والفتح ، كما ظهر مصداقه بعد ذلك ـ إلى أن قال : وأين أنت عن جامعيته واستقامته في جميع ذلك من دون أن تعترضه زلّة اختلاف أو عثرة خطأ أو كبوة تناقض ، فإنّ في ذلك أعظم إعجاز يعرفه الفيلسوف والاجتماعي والسياسي المدنيّ. (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء / ٨٣) (١).
وقال في إحدى كتبه :
وقد خاض القرآن الكريم في فنون المعارف والإصلاح مما يتخصص فيه الممتازون بالرقي في أبواب الفلسفة والسياسة والخطابة والإصلاح من علم اللاهوت أو الأخلاق أو التشريع المدني والتنظيم الإداري أو الفن الحربي أو البشري والترغيب بالجزاء أو الإنذار والتهديد بالنكال أو الحجج والأمثال أو تذكرة المواعظ والعبر ، وجرى ذلك في الميادين الشريفة بأحسن أسلوب وأقوم منهج وبلغ في جميع ذلك أكرم الغايات وأعلاها في الرقي وهو يكرر بحسب الحكمة كثيرا من قصصه ومقاصده ، وفي جميع ذلك لم تشنه زلة اختلاف ولا عثرة تناقض ولا وهن اضطراب ولا سقوط حجة ، ولا فساد مضمون ولا سخافة بيان ...»(٢).
الوجه الثالث : تناسق آياته :
من أدلة إعجاز القرآن ، تناسق آياته وعدم الاختلاف فيها ، حيث إن القرآن
__________________
(١) بداية المعارف : ج ١ ص ٢٩٧ نقلا عن أنوار الهدى : ص ١٣٥.
(٢) آلاء الرحمن في تفسير القرآن : ص ١٢ الشيخ محمد جواد البلاغي.