وصحة الاعتداد بنظره ولم يرسل الرسل إلّا إليه ولم ينزل الكتب إلا عليه ولم يخاطب إلّا إياه ولا كلّف سواه ، وهو في أصل الفطرة على صفة إذا عرض عليه الحق عرفه وصدقه ، وإذا عرضت عليه شوائب غيّرته عمّا خلق له ، ولم يبق له اعتبار واحتاج إلى ميزان يوازن به ما أدركه وذلك الميزان هو الذي لم يشبه شيئا من الأعراض وهو على أصل الخلقة والجبلّة والفطرة الإلهية ولذلك قال سبحانه : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (الرحمن / ٨ ـ ٩).
ولمّا علم الله من خلقه تغيير الفطر لم يرض لهم من أنفسهم بالنظر وأرسل إليهم رسولا من البشر ، وأنزل إليهم النور الأنور حتى يهتدوا في جميع طرق الخير ويجتنبوا شوائب الجهل والشهوات المحرمة حتى لا ينحرف العقل والنفس عن الفطرة السلمية ، لأن البشر وصنوف أصباغ الجهل والعادات والرسوم المختلفة وصباغ الشهوة والغضب والالحاد والشقاء ؛ كل ذلك يصبغ العقل ويهيئه بهيئة منكرة تحرفه عمّا فطر عليه ، كما أن العين مخلوقة في أصل الخلقة للنظر ، ونظرها معتبر ، أما إذا حصل فيها خيالات أو اتباع تقية أو نزل إليها ماء أو عرضها حول يرى الأشياء على خلاف الواقع فلأجل ذلك لا عبرة برأي العقول حتى يوزن بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ، فما روي من أن العقل حجة باطنة فإنما يراد منه شيئان :
أحدهما : العقل السليم الخالي عن كل شائبة لأنّ الله سبحانه لا ينصب على خلقه حجة غير معصوم وغير مطهّر عمّا لا يرضيه فإنه بذلك يدعو إلى خلاف ما يرضيه وهو واضح البطلان.
ثانيهما : أنه حجة فيما يدركه كل العقول وهو من البديهيات العقلية فإنها برأي العقول بديهية ، ولو لا العقول لم تكن بديهية ، فما حكم العقل به بالبداهة وهو ما أجمع العقول عليه فهو حجة ينبغي متابعته ، وأما ما تختلف فيه العقول فحكمه إلى الله تعالى ورسوله وحججه : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى / ١١) ، (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء / ٦٠) ، (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء / ٨٤) ، ولو رأى الله سبحانه فيهم سلامة العقول على ما