المعرفة واجب حتى لا يلزم تضييع حقه على تقدير وجوده.
ولا يخفى على المتأمل وجه الفرق بين الدليلين المتقدّمين ، فهما مختلفان مضمونا ، إذ الملاك في الأول هو ملاحظة جانب العبد لئلا يقع في الضرر والتهلكة بسبب ترك المعرفة.
أما ملاك الثاني هو مراعاة جانب المولى وحقه ، حيث يمنع العقل من تضييع حقه بترك شكره ويحكم بوجوب الشكر دفعا للمحذور. ولا بدّ في المعرفة من وجوب الاعتقاد وتحصيل اليقين إذ بدونهما لا يحصل احتمال دفع الضرر ووجوب شكر المنعم ، بل يبقى احتمال الضرر وتضييع حق المولى باقيا على حاله ، ومعه فلا يحصل الأمن من احتمال الضرر وتحصيل شكر المنعم ، لذا وبّخ سبحانه وتعالى الأعراب الذين آمنوا بألسنتهم دون الاعتقاد القلبي حيث قال : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات / ١٥).
إذن فالعقل وحده كاف في تحصيل المعرفة ، وما ورد في الكتاب والسنّة ما ظاهره الوجوب فيحمل على الإرشاد إلى حكم العقل المستقل بإدراك أن للكون خالقا عظيما ومدبّرا حكيما ، وقد ورد نظير له في القرآن كقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران / ١٣٣) فهنا أمر بإطاعته تعالى مع أن إطاعته واجبة على العباد بحكم العقل.
والأشاعرة خالفوا العقلاء في مسألة وجوب المعرفة العقلية ، وقالوا : إنّ وجوب معرفته تعالى سمعي تمسكا بظواهر الآيات كقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (محمد / ٢٠).
حيث الأمر للوجوب دلّ على كون السعي نحو تحصيل المعرفة بوحدانيته تعالى واجبا شرعا ، وكذا قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس / ١٠٢).
وأجاب الإمامية :
إن ما يظهر من الآيات وغيرها مما ظاهره الوجوب لا إشكال فيه ، إلّا أنه ليس واجبا استقلاليا من دون الاستعانة بحكم العقل وأدلّته ، فالعقل حاكم لوحده بوجود خالق لهذا الكون المنظّم والدقيق وإلّا فما ذا نفعل بمن لم يعلم بالآيات