يغفل عن نفسه ، وتحت ظلّ هذه الشروط قد يشعر الإنسان بتجرّد روحه وأنها شيء غير جسده وإمضائه وما يحيط به.
«وبالجملة فمما لا ريب فيه أن الإنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا ونفسي ، وإذا لطف نظره وتعمّق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الأمور الجسمانية القابلة للتغير والانقسام والاقتران بالمكان والزمان ، ووجده غير هذا البدن المادي المحكوم بأحكام المادة بأعضائه وأجزائه فإنه ربما نسي أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه وهو لا ينسى نفسه ولا يغفل عنها ، دع عنك ما ربما تقوله : نسيت نفسي ، غفلت عن نفسي ، ذهلت عن نفسي ، فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة ، ألا ترى أنك تسند النسيان والغفلة والذهول حينئذ إلى نفسك وتحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر وغفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن ونحوه؟ ودع عنك ما ربما يتوهّم أن المغمى عليه يغفل عن ذاته ونفسه فإنّ الذي يجده هذا الإنسان بعد انقضاء حال الإغماء أنه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإغماء لا أنه يذكر أنه كان غير شاعر بها ، وبين المعنيين فرق ، وربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا يشبه الرؤيا التي نذكرها من حال المنام» (١).
البرهان الثالث : تجرّد الصور العلمية :
لا شكّ أنا نتخيّل صورا لا وجود لها في الخارج كحجر من زئبق وجبل من ياقوت أو نتصور العنقاء وما شابه ذلك ، ونميّز بين هذه الصّور الخيالية وبين غيرها ، فهذه الصور أمور وجودية (محلها الخيال) وكيف لا يكون كذلك ، ونحن إذا تخيّلنا زيدا شاهدناه ، حكمنا أنّ بين الصورتين المحسوسة والمتخيلة فرقا البتة ، ولو لا أن تلك الصور الموجودة لم يكن الأمر كذلك ، ومحل هذه الصور يمتنع أن يكون شيئا جسمانيا أي من هذا العالم المادي ، فإنّ جملة بدننا بالنسبة إلى الصور المتخيّلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقدار الصغير ، وليس يمكن أن يقال إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا ، إن الهواء ليس من جملة أبداننا ولا أيضا آلة لنفوسنا في أفعالها ، وإلّا لتأملت نفوسنا بتفرّقها وتقطّعها ولكان شعورنا بتغيرات الهواء
__________________
(١) تفسير الميزان للطباطبائي (قدسسره) : ج ٦ ص ١٧٩.