كشعورنا بتغيرات أبداننا ، فبان أن حمل هذه الصور أمر غير جسماني ، وذلك هو النفس الناطقة ، فثبت أن النفس الناطقة مجرّدة (١).
هذا البرهان للحكيم اليوناني أفلاطون.
وبعبارة أوضّح : إن كل واحد منّا يدرك صور الموجودات العظيمة ، ويتصوّرها بما لها من الحجم والمقدار ، فلو كانت حقيقة الإدراك ممحضة في انطباع الصور على المدارك العقلية وجب أن يكون هذا العالم الكبير بسمائه وأرضه وشمسه وقمره وجباله وبحاره ومدنه الخ ، قد تمركزت في صفحة الدماغ ومواضع الإدراك التي لا تزيد على عدّة سنتيمترات فكيف يسع دماغنا الصغير الحجم صور هذه الأشياء العظيمة والآفاق الرحبة وكيف توجد صور هذه الأشياء الكبيرة جدا في تلك المساحة الصغيرة التي يتألف منها الدماغ المدرك للأشياء ، ألا يدلّ هذا على أن هذه الصور العلمية مجرّدة عن المادة ، لها تجرّد برزخي أي أن لها طولا وعرضا وعمقا دون أن يكون لها جرم وثقل.
البرهان الرابع : استذكار الخواطر :
ما من امرئ إلّا ويواجه حوادث معيّنة في حياته ثم بعد ذلك ينساها وبعد فترة يتذكّر ما قد نسيه ؛ وعملية التذكر عبارة عن توجّه الذهن إلى الماضي واستحضار ما غاب عنه.
وعملية الاستذكار تعني أنّ الصور العلميّة مخزونة في صقع النفس بعينها لا يتطرق إليها الفناء والفساد ، وليست عملية الاستذكار سوى التفات الذهن إلى تلك الصور المخزونة في صقع النفس ، وليس كما يتوهم أن الصور العلميّة منطبعة في الدماغ وإلّا فإن الدماغ وما فيه يتبدّل ويتحلّل بمرور الزمن ومضي السنين ، فلو كانت حقيقة الصور العلمية هي نفس الآثار المادية المنطبعة في أعصاب الدماغ لما ان للتذكر معنى صحيح ، بعد ملاحظة ما يطرأ على الدماغ من التحلل والتغيّر في سلسلة الأعصاب وقيام غيرها مقامها بعد أعوام لا تتجاوز العشرة.
هذه أهم البراهين العقلية على تجرّد الروح الإنسانية ، وأنّ الأصالة للماهية لا للمادة.
__________________
(١) أسفار الحكمة لصدر المتألهين : ج ٤ ص ٤٧٩.