وأما تحققه بعد رحيل النبي بزمن طويل فهو خلاف حقيقة الإجماع المعتبر فيه اتحاد الوقت ، وعلى فرض تحقّقه بعد زمن طويل فإنه لا يكون حجة إلّا إذا دخل الباقون فيه طوعا ، أما إذا استظهر الأكثر وخاف الأقل ودخل فيما دخل فيه الأكثر خوفا وكرها فلا ، ولا شك أن الحال كان كذلك فإن بني هاشم لم يبايعوا أولا ، ثم قهروا فبايعوا بعد مدة ، وأما أمير المؤمنين عليهالسلام فقد أخرجوه من داره ليبايع وهو مقاد كما يقاد الجمل المخشوش (١) على حدّ تعبير معاوية بن أبي سفيان عند ما بعث للأمير عليهالسلام برسالة يعيّره فيها ويؤنبه بالقول :
«إنّك كنت تقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع» (٢).
ولكننا نشك بأنه عليهالسلام بايع كرها ، فالأصل حينئذ يقتضي عدمه ، وإنما كل ما في الأمر أنّ أبا بكر صفق على يد أمير المؤمنين عليهالسلام ، وهذا لا يدل على البيعة كرها ، وأما ما ورد من أنه قال : «لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين» فليس فيه إشارة إلى بيعة ولو كرها ، وإنما كل ما في الأمر أنه سكت (٣) ولم يحاربهم بسيف لقلّة الأنصار والأعوان. لذا اعتقد الشيخ المفيد ووافقه السيد المرتضى في كتاب الفصول المختارة أن الإمام عليا عليهالسلام لم يبايع ساعة قط ، قال : «ومما يدل على أنه لم يبايع البتّة أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالا ، أو يكون ضلالا وتركه هدى وصوابا أو يكون صوابا وتركه صوابا ، أو يكون خطأ وتركه خطأ ، فلو كان التأخر ضلالا وباطلا ، لكان أمير المؤمنين عليهالسلام قد ضلّ بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليهالسلام لم يقع منه ضلال بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا في طول زمان أبي
__________________
(١) المخشوش : ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب.
(٢) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٦٧.
(٣) هناك أسباب أخرى أوجبت سكوت أمير المؤمنين عليهالسلام هي :
أولا : أشفق عليهالسلام من ارتداد القوم وإظهار خروجهم على الإسلام لفرط الحمية والعصبية ، وضعف النفوس.
ثانيا : إنه عليهالسلام كان يعلم يقينا أنّ الأمّة ستغدر به ، فكان الصبر أولى لما في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية التي لا تخفى على المتأمل.
ثالثا : إنه خاف على أهله وشيعته ، وظهرت له أمارات الخوف التي يجب معها الكف عن المجاهدة لهم.