فإن قيل : قد يصدر عن الحيوانات العجم بالقصد والاختيار أفعال محكمة ، متقنة في ترتيب مساكنها ، وتبرير معايشها كما النحل (١) ، والعنكبوت (٢) ، وكثير من الوحوش والطيور على ما هو في الكتب مسطور ، وفما بين الناس مشهور مع أنها ليست من أولى العلم.
قلنا : لو سلّم أن موجد هذه الآثار هو هذه الحيوانات ، فلم لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما تهتدي به إلى ذلك. بأن يخلقها الله تعالى عالمة بذلك ، أو يلهمها هذا العلم حين ذلك الفعل ، ثم المحققون من المتكلمين على أن طريقة القدرة والاختيار أوكد ، وأوثق من طريقة الإتقان والإحكام ، لأن عليها سؤالا صعبا ، وهو أنه لم لا يجوز أن يوجب الباري تعالى موجدا يستند إليه تلك الأفعال المتقنة المحكمة ، ويكون له العلم والقدرة ، ودفعه بأن إيجاد مثل ذلك الموجود ، وايجاد العلم والقدرة فيه أيضا (٣) ، فعلا محكما ، بل أحكم ، فيكون فاعله عالما لا يتم إلا ببيان أنه قادر مختار ، إذ الإيجاب بالذات من غير قصد لا يدل على العلم ، فيرجع طريق الإيقان إلى طريق القدرة مع أنه كاف في إثبات المطلوب ، وقد يتمسك في كونه عالما بالأدلة السمعية من الكتاب والسنة والإجماع.
__________________
(١) النحل سمي نحلا لأن الله عزوجل نحله العسل الذي يخرج منه قاله الزجاج. والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والانثى حتى يقال : يعسوب والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز ، وروى ابن عباس قال : نهى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد ، أخرجه أبو داود وذكره الترمذي عن الحكيم في نوادر الأصول ، ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة ، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة ، وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر ، إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج إلا الشكل المسدس ، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.
(٢) قالوا : العنكبوت : الدويبة المعروفة التي تنسج نسجا رقيقا مهلهلا بين الهواء وهي عناكيب وعناكب وعكاب وعكب قال عطاء الخراسانيّ نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان جالوت يطلبه ، ومرة على النبيصلىاللهعليهوسلم ، ولذلك نهى عن قتلها. وقال النحاة : إن تاء العنكبوت في آخرها مزيدة لأنها تسقط في التصغير والجمع وهي مؤنثة وحكى الفراء تذكيرها فأنشد :
على هطالهم منهم بيوت |
|
كأن العنكبوت قد ابتناها |
راجع تفسير القرطبي ح ١٣ ص ٣٤٤ ، ٣٤٥.
(٣) سقط من (أ) لفظ (فيه).