المعجزات من غير توقف على إخبار الله تعالى عن صدقهم بطريق التكلم ليلزم الدور ، وقد يستدل على ذلك بدليل عقلي على قياس ما مرّ في السمع والبصر ، وهو أن عدم التكلم ممن يصح اتصافه بالكلام. أعني الحي العالم القادر نقص ، واتصاف بأضداد الكلام ، وهو على الله تعالى محال. وإن نوقش في كونه نقصا ، سيما إذا كان مع قدرة على (١) الكلام ، كما في السكوت ، فلا خفاء في أن المتكلم أكمل من غيره. ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والاعتراض.
والجواب : هنا كما مرّ في السمع والبصر وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب في كون الباري تعالى متكلما. وإنما الخلاف في معنى كلامه ، وفي قدمه وحدوثه ، فعند أهل الحق كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف. بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى منافيه للسكوت ، والآفة كما في الخرس والطفولة هو بها آمر ناه مخبر وغير ذلك ، يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة ، فإذا عبر عنها بالعربية فقرآن ، وبالسريانية فإنجيل ، وبالعبرانية فتوراة. والاختلاف على العبارات دون المسمى كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة متعددة ، ولغات مختلفة. وخالفنا في ذلك جميع الفرق. وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدال على المعاني المقصودة ، وأن الكلام النفسي غير معقول.
ثم قالت الحنابلة (٢) والحشوية (٣) : إن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتب بعضها على البعض ، وكون (٤) الحرف الثاني من كل كلمة مسبوقا بالحرف المتقدم عليه كانت ثابتة في الأزل ، قائمة بذات الباري تعالى وتقدس ، وأن المسموع من أصوات القراء والمرئي (٥) من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم ، وكفى شاهدا على جهلهم ما نقل عن بعضهم أن الجلدة والغلاف أزليان ، وعن بعضهم أن الجسم
__________________
(١) راجع في ذلك كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج ٣ ص ٤ إلى ١٤ وكتاب المواقف المقصد السابع من الجزء الثامن ص ٩١ إلى ١٠٤.
(٢) سبق التعريف بفرقة الحنابلة.
(٣) سبع التعريف بالحشوية.
(٤) في (ب) يكون بدلا من (وكون).
(٥) في (ب) القرآن الذي بدلا من (القراء والمرئى).