قد ثبت أن الله تعالى عالم بالجزئيات (١) ما كان وما سيكون ، وأنه يستحيل عليه الجهل وكل ما علم الله أنه يقع يجب وقوعه ، وكل ما علم الله أنه لا يقع يمتنع وقوعه ، نظرا إلى تعلق العلم ، وإن كان ممكنا في نفسه ، وبالنظر إلى ذاته ، ولا شيء من الواجب والممتنع باقيا في مكنة العبد بمعنى أنه إن شاء فعله وإن شاء تركه.
فإن قيل : يجوز أن يعلم الله تعالى أن فعل العبد يقع بقدرته واختياره ، فلا يكون خارجا عن مكنته.
قلنا : فيجب أن يقع البتة بقدرته واختياره ، بحيث لا يتمكن من اختيار الترك ، وهذا هو المراد بالانتهاء إلى الاضطرار. غاية الأمر أن يكون بإيجاده لكن لا على وجه الاستقلال والاختيار التام كما هو مذهب المعتزلة. وقد أشرنا إلى أن القصد (٢) من بعض الأدلة إلى الإلزام دون الإتمام. نعم يرد نقض الدليل بفعل الباري تعالى ، لجريانه فيه مع الاتفاق على كونه بقدرته واختياره ، ويمكن دفعه بأن الاختياري ما يكون الفاعل متمكنا من تركه عند إرادة فعله لا بعده ، وهذا متحقق في فعل الباري ، لأن إرادته قديمة متعلقة في الأزل بأنه يقع في وقته ، وجائز أن يتعلق حينئذ بتركه (٣) ، وليس حينئذ سابقة علم ليتحقق الوجوب ، أو الامتناع. إذ لا قبل للأزل ، فالحاصل أن تعلق العلم والإرادة معا فلا محذور بخلاف إرادة العبد ، وتقرير الإمام في المطالب العالية (٤) هو أنه لما وجب في الأزل وقوع الفعل أو لا وقوعه في وقته لزم أن يكون لهذا الوجوب سبب ، وليس من العبد لأن الحادث لا يصلح سببا للأزلي. بل من الله تعالى. وليس هو العلم لأنه تابع للمعلوم ، لا مستتبع. بل القدرة والإرادة ، إذ بهما التأثير فثبت أن المؤثر في فعل العبد قدرة الله تعالى إما ابتداء أو بوسط وهو المطلوب ، وهذا ضعيف جدا ، لكن النقض مندفع عنه.
__________________
(١) قال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). سورة الأنعام آية رقم ٥٩.
(٢) في (أ) بزيادة حرف (أن).
(٣) سقط من (ب) لفظ (حينئذ).
(٤) هذا الكتاب يسمى المطالب العالية في الكلام للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ ه وشرحه عبد الرحمن المعروف بجلب زاده.
راجع كشف الظنون ج ٢ ص ١٧١٤.