ما وصلتم إليه علم متعلق بالمعلوم على ما هو به ، بل هو جهل ظننتموه علما؟ قلنا : ولو أنكر العلوم الحسابية منكر فما ذا يقال له؟ أو ليس يسفه فى عقله ويقال له : هذا يدل على قلة بصيرتك بالحسابيات. فإن الناظر فى الهندسة إذا حصر المقدمات ورتبها على الشكل الواجب يحصل العلم بالنتيجة ضرورة على وجه لا يتمارى فيه ، فهكذا جوابنا فى المعقولات ، فإن المقدمات النظرية ، إذا رتبت على شروطها أفادت العلم بالنتيجة على وجه لا يتمارى فيه ، ويكون العلم المستفاد من المقدمات بعد حصولها ضروريا كالعلم بالمقدمات الضرورية المنتجة له. وإن أردنا أن نكشف ذلك لمن قلت بضاعته فى العلوم فنضرب له مثالا هندسيا ، ثم نضرب له مثالا عقليا لينكشف له الغطاء وينجلى عن عقيدته الخفاء.
أما المثال الهندسى فهو أن أقليدس (١) رسم فى مصنفه فى الشكل الأول من المقالة الأولى مثلثا ، وادّعى أنه متساوى الأضلاع ؛ ولا يعرف ذلك ببديهة العقل ، ولكنه ادعى أنه يعرف بالبرهان نظرا ، وبرهانه بمقدمات :
(الأولى) أن الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى المحيط متساوية من كل جانب ، وهذه المقدمة ضرورية ، إذ الدائرة ترسم بالبركار (٢) على فتح واحد ، وإنما الخط المستقيم من المركز إلى الدائرة هو فتح البركار ، وهو واحد فى الجوانب.
(المقدمة الثانية) إذا تساوت دائرتان بالخطوط المستقيمة من مركزهما إلى محيطهما فالخطوط أيضا متساوية ، ـ ضرورية.
(المقدمة الثالثة) أن المساوى للمساوى مساو ، وهذه أيضا ضرورية. ثم الآن نشتغل بالمثلث ونشير إلى خطين منه ونقول : إنهما متساويان لأنها خطان مستقيمان خرجا من مركز دائرة إلى محيطها ، والخط الثالث مثل لأحدهما لأنه خرج أيضا من
__________________
(١) أقليدس : عالم الحسابيات والهندسة.
(٢) البركار : آلة هندسية ذات ساقين لرسم الدائرة ، (البيكار) أو (البرجل).