بـ «التقريب في حدود الكلام» (١) وتقصيناه هنالك غاية التقصي والحمد لله رب العالمين. إلّا أننا نذكر هاهنا جملة كافية لتكون مقدمة لما يأتي بعدهم مما اختلف الناس فيه ، يرجع إليها إن شاء الله تعالى عزوجل فنقول وبالله التوفيق :
إن الإنسان يخرج إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة في قول من يقول : إنها كانت قبل ذلك ذاكرة ، أو لا ذكر لها البتة في قول من يقول : إنها حدثت حينئذ ، أو أنها مزاج عرض ، إلا أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته ولا تمييز إلّا ما لسائر الحيوان من الحسّ والحركة الإرادية فقط ، فتراه يقبض رجليه ويمدّهما ، ويقلب أعضاءه حسب طاقته ، ويألم إذا أحسّ البرد ، أو الحرّ ، أو الجوع ، وإذا ضرب ، أو قرص ، وله سوى ذلك مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي (٢) مما ليس حيوانا ، من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه ، فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه ـ من سائر الأعضاء ـ بفيه دون سائر أعضائه ، كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الأرض والماء لبقاء أجسامها على ما هي عليه ، ولنمائها ، فإذا قويت النفس على قول من يقول : إنها مزاج ، أو إنها حدثت حينئذ ، أو أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول : إنها كانت ذاكرة قبل ذلك ، أو إنها كالمفيق من مرض فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان فهم ما أدركت بحواسّها الخمس ، كعلمها : أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها ، والرائحة الرديئة منافرة لطبعها ، وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر ، وللأصفر وللأبيض ، وللأسود ، وكالفرق بين الخشن والأملس ، والمكتنز (٣) والمتهيّل (٤) واللزج (٥) ، والحار والبارد والدافىء ، وكالفرق بين الحلو
__________________
بيمارستان العضدي. توفي ببغداد سنة ٣١١ ه. وله عدد كبير من الكتب والمصنفات. انظر هدية العارفين (٢ / ٢٧ ـ ٢٩).
(١) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (ص ٤٦٦) باسم : «التقريب في المنطق» وقال : «وهو مختصر جعله مدخلا إليه وأورد الأمثلة الفقهية بألفاظ عامية بحيث أزال سوء الظنّ عنه». وقد طبع هذا الكتاب في السودان (دار مكتبة الحياة) بتحقيق الدكتور إحسان عباس ، وذلك سنة ١٩٥٩ م ، وسماه : «التقريب لحدود المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية».
(٢) النوامي : النباتات النامية.
(٣) المكتنز : المجتمع والممتلئ (المعجم الوسيط : ص ٨٠٠).
(٤) تهيّل الشيء : انهال بعضه في إثر بعض (المعجم الوسيط : ص ١٠٠٤) ويريد بالمتهيل هنا : المترهّل.
(٥) لزج الشيء لزجا ولزوجا ولزوجة : تمطط وتمدد وكان فيه ودك يعلق باليد ونحوها (المعجم الوسيط : ص ٨٢٣).