فبطل هذا الشغب ، والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا : إنّ ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ، ففعله الذي هو الترك لم يزل. قلنا وبالله تعالى التوفيق : إنّ ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلا أصلا على ما نبين في إفساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى.
إفساد الاعتراض الثالث
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه : إمّا أن يكون مثلها من جميع الوجوه. أو من بعض الوجوه لا من كلّها ، أو خلافها من جميع الوجوه .. إلى انقضاء كلامهم .. بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه ، وإدخالكم ـ على هذا الوجه ـ أنه حقيقة الضد والتناقض والضد لا يفعل ضدّه ، كما لا تفعل النار التبريد (١) إدخال فاسد. لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضدّ لخلقه ، لأن الضد : ما حمل على التضاد ، والتضادّ : هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد ، فإذا وقع أحد الضدّين ارتفع الآخر (٢).
وهذا الوصف بعيد عن الباري تعالى.
وإنما التضادّ كالخضرة والبياض (٣) اللذين يجمعهما اللون.
أو الفضيلة والرذيلة اللتين تجمعهما الكيفية والخلق.
__________________
(١) في هذا المقطع تقديم وتأخير ، ومعنى العبارة هكذا : وإدخالكم هذه المقولة على الوجه الذي صورتموه أنه حقيقة الضدّ والتناقض ، إدخال فاسد لأن الضد لا يفعل ضدّه كما لا تفعل النار التبريد.
(٢) يريد بالضدّين هنا المتناقضين ، وتعريف النقيضين في علم المنطق أنهما اللذان لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا في نفس الوقت ونفس الظروف ، فوجود أحدهما يعني ارتفاع الآخر ، وعدم وجود أحدهما يعني بالضرورة وجود الآخر. وهذا مثل «الوجود» و «اللاوجود» أو «الوجود» و «العدم». ومثل كل شيء يعبّر عنه بصيغة الإيجاب ، ثم تسلب عنه صفة الإيجاب بإضافة لفظة «اللا» إليه. أما الضدّان فهما صفتان لا يمكن أن تجتمعا معا في نفس الوقت ، ولكن قد يرتفعان معا ، فوجود أحدهما ليس دليلا على انعدام الآخر ، كما أن انعدام أحدهما ليس دليلا على وجود الآخر. وهذا مثل الأبيض والأسود ، والحرارة والبرودة ، والطول والقصر .... الخ. فلا يمكن أن يكون نفس الشيء أبيض أسود ، أو حارا باردا ، أو طويلا قصيرا في نفس الوقت ، ولكن يمكن أن يكون لا أبيض ولا أسود ، ولا حارا ولا باردا ، ولا طويلا ولا قصيرا في نفس الوقت ، بل بين البياض والسواد والحرارة والبرودة والطول والقصر.
(٣) راجع الحاشية السابقة.