معنى الحصر والإحصاء إلا ضم ما بين طرفي المحصى والمحصور ، والعالم موجود بالفعل ، وكل محصور بالعدد محصى بالطبيعة فذو نهاية ، فالعالم كله ذو نهاية ، وسواء في كل ذلك ما وجد في مدة واحدة أو في مدد كثيرة إذ ليست تلك المدة إلّا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة ، فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشياء التي ركب منها ، فهي كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول. فصحّ من كل ذلك أنّ ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده بالفعل ، وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده أبدا ، لأن وقوع البعديّة فيه هو وجود نهاية له.
وما لا نهاية له فلا بعد له ، فعلى هذا لا يوجد شيء أبد الآبدين. والأشياء كلها موجودة بعضها بعد بعض فالأشياء كلها ذات نهاية.
وهذان الدليلان قد نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [سورة الرعد : ٨].
برهان ثالث
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه ، إذ معنى الزيادة إنّما هو أن نضيف إلى ذي النهاية شيئا من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته.
فإن كل الزمان لا أول له يكون به متناهيا في عدده الآن ، فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئا.
وفي شهادة الحس أن كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتد بالله (١) هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فإن لم يكن هذا صحيحا فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة في كل ثلاثين سنة ـ وزحل لم يزل يدور ـ دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة ألف دورة غير خمسين دورة ـ والفلك لم يزل يدور ـ وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك. فإذن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة ، وهذا محال لما قدمنا.
__________________
(١) هو آخر ملوك بني أمية بالأندلس أبو بكر المعتدّ بالله هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر. توفي سنة ٤٢٨ ه. انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (٩ / ٩٧).