برهان رابع
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له ، فالإحصاء منّا له بالعدد والطبيعة إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم الماضية محال لا سبيل إليه ، إذ لو أحصي ذلك كله لكان له نهاية ضرورة ، فإذن لا سبيل إليه.
فكذلك أيضا هو محال أن تكون الطبيعة والعدد أحصيا ما لا نهاية له من أوائل العالم الخالية حتى يبلغا إلينا ، وإذا كان ذلك محالا فالعدد والطبيعة إذن لم يبلغا إلينا ، وقد تيقّنا وقوع العدد والطبيعة في كل ما خلا من العالم حتى بلغا إلينا بلا شك. فإذا قد أحصى العدد والطبيعة كلّ ما خلا من أوائل العالم إلى أن بلغا إلينا ، فكذلك الإحصاء منا إلى أوّلية العالم صحيح موجود ضرورة بلا شك.
وإذ ذلك كذلك فللعالم أوّل ضرورة. وبالله تعالى التوفيق.
برهان خامس
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ، ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان ، وهكذا أبدا. ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان. ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث. ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود.
وفي وجودنا جميع الأشياء التي في العالم معدودة إيجاب أنها ثالث بعد ثان ، وثان بعد أوّل.
وفي صحّة هذا وجوب أوّل ضرورة. وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل ، وعلى الذي قبله وحصرهما في قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [سورة الجن : ٢٨].
وأيضا فالآخر والأوّل من باب المضاف ، فالآخر آخر للأول ، والأول أوّل للآخر. ولو لم يكن أوّل لم يكن آخر.
ويومنا هذا بما فيه ، آخر لكل موجود قبله ، إذ ما لم يأت بعد فليس شيئا ، ولا وقع عليه بعد شيء من الأوصاف فله أول ضرورة.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد أخبرني بعض أصدقائنا وهو : محمد بن عبد الرحمن بن عقبة رحمهالله تعالى : أنه عارض بهذا البرهان بعض الملحدين ، وهو : «عبد الله بن عبد الله بن شنيف» فعارضه الملحد في قوله بخلود الجنة والنار وأهلهما فقال له ابن عقبة : إنما أخذنا خلود داري الجزاء وخلود أهلهما بلا نهاية على غير هذا الوجه ، ولكن على أنّ الله تعالى ينشئ لكل ذلك بقاء محدودا ، وحركات حادثة ،