حتى ظفر به وبأصحابه فقتلهم كلهم. وكدعوى اليهود لأحبارهم السالفين ، ولرءوس المثايب المعجزات بالصناعات ، وكدعوى أصحاب الحلاج للحلاج ، وكدعوى طوائف من المسلمين مثل ذلك من المعجزات لشيبان الراعي ، ولإبراهيم بن أدهم ، ولأبي مسلم الخولاني ولعبد الله بن المبارك .. رحمة الله عليهم وعلى غيرهم من الصالحين ، وكل ذلك كذب وتوليد من لا خير فيهم ، وإحالة على أشياء مغيبة لا يعجز عن ادعاء مثلها أحد ، وكل طائفة ممن ذكرنا تعارض دعواها بدعوى سائر الطوائف ، ولا سبيل إلى الفرق بين شيء من هذه الدعاوى.
وقد قلنا لا يمكن البتة وجود معجزة إلا لنبي فقط ، ثم لا تصلح إلا بنقل يقطع العذر ، ويوجب العلم للكافر والمؤمن ، إلا من كابر حسّه وغالط نفسه ، وقال هذا سحر فقط ، وكذلك ما اغتر به كثير من جهالهم مما رأوا من عظيم اجتهاد رهبانهم ، أصحاب الصوامع والدّيرات والمطموس عليهم أبواب البيوت ، فليعلموا أنه ليس عندهم من الاجتهاد في العبادة إلا جزء من أجزاء كثيرة مما عند المنانية ، وشدة اجتهادهم ، والذي عند الصّابئين من ذلك أعظم ، فإنه يبلغ الأمر بهم إلى أن يخصي الواحد نفسه ، ويسمل عيني نفسه ، اجتهادا في العبادة.
والذي عند الهند أكثر من هذا كله فإنهم لا يزالون يحرقون أنفسهم في النار تقرّبا إلى البدّ (١) ولا يزالون يرمون أنفسهم من أعالي الجبال كذلك ، فأين اجتهاد من اجتهاد؟ وعبّاد الهند لا يمشون إلا عراة ، ولا يلتبسون من الدنيا بشيء أصلا ، فأين هذا من هذا لو عقلوا؟! وإن شئت فتأمل أساقفة النصارى وقسيسيهم وحثالتهم تجدهم جملة أفسق الخلق ، وأرياهم (٢) وأجمعهم للمال ، لا سبيل أن تجد منهم واحدا بخلاف هذا ، وكذلك إن اعتبروا بصبر أوائلهم للقتل على دينهم ، حتى عملوا لهم الشائنات إلى اليوم ، فإن ذلك لا يتحرى من صبر المنّانية على القتل في الثبات على دينهم ، ومن صبر دعاة القرامطة على القتل أيضا ، وكل هذا لا يتعلق به إلا جاهل سخيف ، مقلد متهالك ، وإنما الحق فيما أوجبته براهين العقول ، والتي وضعها الله تعالى فينا لتمييز الحق من الباطل ، ونبا بها عن البهائم فقط ، ثم في الاعتدال والاقتصار على ما جاء به صاحب الشريعة ، التي قام البرهان بصحتها عن الله تعالى ، وجماع ذلك ما جرى عليه أصحاب
__________________
(١) في اللسان (٣ / ٨٢) : «البدّ : بيت فيه أصنام وتصاوير ، وهو إعراب بتّ بالفارسية .. وقال ابن دريد : البدّ الصنم نفسه الذي يعبد ، لا أصل له في اللغة ، فارسيّ معرب ، والجمع : البددة».
(٢) من المراءاة.